الاقتصاد السعودي بات يتحرك بميزانية استثمارية بدل العجز
## هل تتوقعون أن يكون هذا العام 2010، عام توديع تداعيات الأزمة المالية حول العالم .. أم أن هناك نارا باقية تحت القشة ربما تنفجر في أي وقت وتعيد الاقتصاد العالمي إلى نقطة أيلول (سبتمبر) 2008؟
حتى الآن نستطيع القول إن أسباب الأزمة المالية العالمية .. باتت تحت السيطرة وإن مرحلة التعافي من الأزمة قد بدأت، وإن القضاء عليها سوف لا يستغرق وقتاً طويلاً، ويبدو أن المجتمع الدولي نجح بامتياز في السيطرة على أسباب الأزمة، وإن الحكومات والمؤسسات الدولية والتكتلات الاقتصادية الدولية سجلت أعلى درجات التعاون الدولي للحيلولة دون بلوغ الأزمة أسوأ مراحلها. هذه المواجهة العالمية الواسعة الأرجاء جعلت دورة الانكماش تنتهي عند أصغر مساحة ممكنة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة التعافي والخروج من الأزمة.
ومعنى هذا أن الاقتصاد الدولي سوف يدخل مرحلة الشفاء من الأزمة مع تباشير عام 2010، وهناك أدلة كثيرة تؤكد أن الاقتصاد العالمي بدأ الخروج من الأزمة المالية العالمية خلال عام 2009. ولا شك أن تحسن أسعار البترول مع الثبات النسبي لها، وتحسن أداء الأسواق المالية وأسواق الأسهم العالمية الكبرى من المؤشرات التي تؤكد أن الاقتصاد الدولي بدأ يحقق انتصارات مؤكدة على الأزمة المالية العالمية، وعلى سبيل المثال، فقد سجل مؤشر الأسهم البريطاني الرئيسي فوتسي أكثر من 200 نقطة باتجاه الارتفاع، ومثله سجل مؤشر داكس في ألمانيا، وكاك في فرنسا، ومن جهته فإن مؤشر داو جونز في وول ستريت حقق ارتفاعات بمعدلات تؤكد أن الأسواق العالمية الرئيسية خرجت بالفعل من الأزمة المالية وإنها بدأت مرحلة جديدة من التعافي.
وفى آسيا شهدت الأسهم اليابانية في بورصة طوكيو ارتفاعا هو الأعلى خلال الأشهر الستة الماضية، ومن المؤشرات الإيجابية التي يسجلها الاقتصاد الدولي على طريق الخروج من الأزمة العالمية أن عدداً كبيراً من البنوك والشركات العالمية حققت أرباحاً، وعلى سبيل المثال ارتفعت أرباح بنك باركليز البريطاني إلى 15 في المائة في الربع الأول وإلى 13.17 في المائة في الربع الثاني من عام 2009، وكذلك من المؤشرات الإيجابية حدوث تراجع ملحوظ في مطالبات تعويض البطالة في الولايات المتحدة، ومن المؤشرات المهمة أيضاً أن قوة التحمل لعدد أكبر من البنوك الأمريكية وصل إلى المستويات الطبيعية في الأسابيع القليلة الماضية، ومعنى قوة التحمل أن قوة مقاومة البنوك الأمريكية للضغوط أصبحت في المعدلات المطلوبة، ولا سيما وإن بعض هذه البنوك كان على وشك الإفلاس والانهيار، ولكن الآن أصبح لدى هذه البنوك وغيرها من المؤسسات المالية المهمة المال الكافي للتعامل مع الركود، بل تبين نتائج الاختبارات ـ التي كانت أكثر إيجابية مما توقعه كثير من المستثمرين ـ أن البنوك لديها احتياطيات كافية لتغطية رؤوس الأموال .
ومن ناحية أخرى فقد توقع تقرير "ميريل لينش" الذي صدر عن آفاق الاستثمار إن الاقتصاد العالمي سينمو بمعدل 3ر4 في المائة في عام 2010 بعد انكماش بمعدل قارب 1 في المائة في عام 2009، وأوضح التقرير أن الحكومات أنفقت تريليونات الدولارات لإنعاش الاقتصاد العالمي، وخفضت البنوك المركزية أسعار فوائدها الرئيسة بمعدلات جعلتها تقارب الصفر في المائة، وأعادت الشركات هيكلة أعمالها وتخلصت من بعض الوحدات والأصول واندمجت كي تصبح في أحسن حال لدى انتهاء موجة الركود والبدء في انتعاش الاقتصاد العالمي، كذلك توقع التقرير تولي الصين والهند قيادة الانتعاش الاقتصادي العالمي، وسوف تحقق الصين معدل نمو يصل إلى 10 في المائة بينما تحقق الهند معدل نمو يصل إلى 7 في المائة، وتوقع التقرير أن المستهلكين الصينيين سوف يحفزون نمو الناتج المحلى الصيني، كما توقع التقرير أن تحقق الاقتصادات الأمريكية والأوروبية معدلات نمو أكثر تواضعاً تقع بين 3 و2 في المائة على التوالي، كذلك من المتوقع أن يبلغ معدل نمو الاقتصاد الياباني 3 في المائة فقط في عام 2010.
وإذا كان البعض يقول إننا مازلنا في بداية طريق الخروج من الأزمة ويجب ألا نفرط في التفاؤل، فهذا صحيح، ولكن التفاؤل في حد ذاته هو علاج للأزمة، لأن جانباً كبيراً من الأزمة المالية جاء بسبب الإفراط في التشاؤم الذي ساد الأسواق العالمية، ومازالت الشائعات المغرضة تعرقل وتبطئ عمليات الخروج من الأزمة بالسرعة المطلوبة .
ولذلك فإن القول إننا يجب ألا نفرط في التفاؤل يحتاج إلى تقنين، لأن التفاؤل ـ كما أسلفت ـ هو جزء من الحل الذي تحتاج إليه الأسواق، أمّا نشر الشائعات والتشاؤم في الأسواق وفي أندية رجال المال والأعمال، فإن تأثيره سوف يكون سلبياً على طريق الخلاص من الأزمة بالسرعة التي نتمناها جميعاً.
## كيف تقيسون توجهات الاقتصاد السعودي في هذا العام 2010.. هل تتوقعون العودة إلى مستويات النمو للاقتصاد الكلي للاقتراب من معدلات 2007 و2006؟ - وكذلك توجهات الاقتصاد الخليجي؟
نستطيع القول بكل ثقة إن مشاركة المملكة العربية السعودية في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في العاصمة البريطانية لندن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي .. لم تأت من باب البترول كما يقول بذلك بعض المغرضين، بل أتت من خلال حجم الاقتصاد السعودي الذي صنّف بأنه يحتل المركز الثامن عشر الأكبر في العالم. إن عودة المناخ الصحي إلى قنوات ودهاليز الاقتصاد السعودي مكن الحكومة من المضي قدماً في استكمال تنفيذ مشاريع البنى التحتية وأهمها مشاريع المياه والكهرباء والمستشفيات والمدارس والجامعات والطرق، واستكمال سياسات الإصلاح المالي والإداري الذي بدأته الحكومة منذ عام 2006، وعلى صعيد مساهمة الاقتصاد السعودي في دعم النظام الاقتصادي الدولي، فقد قال خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة مجموعة العشرين: ونحن مستمرون كذلك في القيام بدورنا في العمل على استقرار السوق البترولية، كما أننا واصلنا برنامجنا الاستثماري الضخم لزيادة طاقتنا الإنتاجية حرصاً منا على استقرار سوق الطاقة العالمي ولقناعتنا بأن ذلك يخدم مصلحتنا ومصلحة الاقتصاد العالمي، وندعو الدول المستهلكة للتعاون معنا في هذا المجال وتفعيل الحوار بين المنتجين والمستهلكين لما فيه المصلحة المشتركة، وعدم استهداف البترول بسياسات تؤثر سلباً عليه، وحرصاً منا على تفعيل الحوار، فقد بادرنا بالتعاون مع الدول الصديقة لإنشاء الأمانة العامة لمنتدى الطاقة الدولي في الرياض.
إن الأرقام التي حفلت بها ميزانية العام المالي 2009 تؤكد أن الدولة ـ حفظها الله ـ تريد أن تسارع الخطى للإجهاز على المشكلات التي عاناها الإنسان السعودي حينما كانت الميزانية التقديرية للدولة تصدر ممولة بالعجز، بمعنى أن الميزانية ـ من وجهة نظر الحكومة ـ تعتبر برنامج إنفاق استثماري يتواصل مع السنوات السابقة ليكون في النهاية خطة خمسية للتنمية الشاملة والمستدامة، هدفها رفع مستوى معيشة الإنسان السعودي ودفعه إلى مستوى أعلى من الرفاهية.
إن الاستمرار في اعتماد هذا الحجم من الإنفاق الحكومي نحو الاستثمار الوطني سيزيد من حيوية ونمو الاقتصاد الوطني ويوسع قاعدته الإنتاجية ولا سيما في مرحلة الانفلات من الأزمة المالية العالمية، كما أن مشاريع البنى التحتية التي أولتها ميزانية عام 2009 اهتماما أكثر من أي عام مضى .. سوف تساعد على تحقيق الرخاء وتقضى على كثير من المشكلات التي عاناها المجتمع في الأعوام الماضية.
وما يلفت النظر أن الشعار الذي سبق أن رفعه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بأنه لا عذر أمام الموظفين الحكوميين بعد أن وفرت الدولة لهم المال اللازم .. هذا الشعار أصبحت له دلالاته الموضوعية في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى.
## القطاع المالي السعودي محجم عن الائتمان، الأمر الذي دفع الحكومة ممثلة في صناديق التمويل (الصناعي والتنمية والاستثمار) إلى رفع تمويلاتها للمشاريع .. هل تتوقعون استمرار هذا النهج خلال هذا العام أم أن البنوك ستعاود نشاطها الائتماني؟
القطاع المالي السعودي لا يستطيع أن يستمر محجماً عن الائتمان إلى ما لا نهاية، لأن الائتمان هو إحدى الوظائف المهمة للمؤسسات المصرفية والمالية، وسوف تعود البنوك إلى ممارسة وظيفة الائتمان في مرحلة الانتعاش الاقتصادي الذي نتوقع أن ترتفع معدلاته في عام 2010م.
## ما توقعاتكم لاتجاه الدولار خلال هذا عام 2010، وبالتالي انعكاسه على حركة السياسة النقدية في العالم بما فيها السعودية؟
واضح تماماً من خلال متابعتنا للأزمة المالية العالمية أنها ركبت على الولايات المتحدة ديوناً وافرة وعجزاً هائلاً، وتبعاً لهذا العجز وتلك الديون، فإن الدولار بدأ يفقد قوته في جميع الأسواق العالمية، بل نستطيع القول إن الدولار أصبح عملة ضعيفة بكل المقاييس، فقد وصل عجز الموازنة الأمريكية للسنة المالية التي على وشك الانتهاء إلى 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أكبر عجز منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت نفسه تضاعف الدين الخارجي المترتب على الولايات المتحدة ثلاث مرات تقريباً في العام الماضي ليصل إلى 3500 مليار دولار، ومن المتوقع أن يزداد بواقع ألف مليار دولار سنوياً خلال العقد المقبل، يضاف إلى ذلك أن البنية التحتية للنظام المالي الأمريكي متردية ومتهالكة، وكثير من الولايات الكبيرة ليس لديها أموال، ولسد هذه الثغرات يتعين رفع الضرائب إلى مستويات عالية جداً وإجراء خفض كبير على الإنفاق.
لذلك لن يكون أمام واشنطن إلاّ أن تطبع مزيداً من الدولارات وأن تخفض قيمة العملة وأن تخدم الدين العام بالدولارات الرخيصة، وكل هذه العوامل سوف تؤدي بالضرورة إلى دولار مثقل بالإعياء وضعيف.
وعلى عكس ذلك فإن الأسواق الناشئة في آسيا تتجه إلى تحقيق مزيد من النمو بضعفي سرعة نمو الولايات المتحدة وثلاثة أضعاف السرعة التي ينمو بها الاتحاد الأوروبي، وبحلول عام 2020 ستحصد الصين، الهند، إندونيسيا، كوريا الجنوبية، فيتنام، وسنغافورة مجتمعة ثروة تزيد على الثروة التي تنتجها الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي مجتمعة. كما أن ضعف الدولار وانخفاض قيمته يجعل الأمريكيين يدفعون ثمناً أعلى لكل شيء يشترونه من الخارج، الدولار الضعيف يشجع المنتجين على التنافس في السعر أكثر مما يتنافسون على الجودة ويقلص النفوذ السياسي والهيبة العالمية التي كانت عليها الولايات المتحدة حينما كان الدولار قوياً .
والمحصلة هي أن العملات الآسيوية ـ من المرجح ـ أن تعزز قيمتها مقابل الدولار بسبب زيادة مطردة في معدلات التجارة البينية، وهذه العملات سوف تتقدم على الدولار كي تكون العملة الدولية الرائدة.
وإذا كانت دول الخليج لا تتجه - في المدى القصير - إلى تغيير الدولار كعملة دولية، فإنه ليس من مصلحة اقتصاد هذه الدول ـ في المدى الطويل ـ الاستمرار في المكابرة والاعتماد على عملة سوف تنتقل من عملة ضعيفة إلى عملة مريضة يوصي الأطباء باستئصالها وتغييرها حتى يتعافى الاقتصاد من أمراض الدولار القاتلة، لأن حالة الضعف التي عليها الدولار سوف تنتقل إلى كل أوصال وشرايين الاقتصادات الخليجية.
لذلك فإنه يتعين على دول الخليج أن تراقب باهتمام التطورات التي يعيشها الدولار وتكون مستعدة لكل التغيرات التي لا مفر من التفاعل معها، وأهم هذه التغيرات هو إيجاد عملة دولية بديلة.
## الفائدة لدينا حاليا في أدنى مستوياتها تاريخيا .. هل تتوقع رفعها تدريجيا لمواجهة الضغوط التضخمية المرتقبة وكذلك فتح قنوات استثمارية لإبقاء أموال البنوك في الداخل؟
نعرف جميعاً أن رفع أو خفض الفائدة تحكمه مجموعة من الأدوات الاقتصادية المهمة، ولا شك أن خفض الفائدة إلى أدنى مستوياتها أدى إلى انخفاض التضخم بشكل ملحوظ، وانخفاض التضخم أدى ـ بدوره ـ إلى تراجع الركود وزيادة معدلات الانتعاش الاقتصادي، ولذلك نحن دائماً نقول إن السوق السعودي لم يتأثر كثيراً بالأزمة المالية العالمية، لأن وسائل علاج الأزمة في السوق السعودي كانت موفقة وناجحة.
وإذا كان استمرار الانتعاش الاقتصادي سوف يؤدي في عام 2010 إلى ارتفاعات الأسعار والدخول في موجة تضخمية جديدة، فإن مؤسسة النقد العربي السعودي ووزارة المالية سوف تتصدى للتضخم برفع الفائدة، وهذا ما أتوقعه، فأنا من المتفائلين دائماً، وأتوقع أن يحقق الاقتصاد الدولي انتعاشا لافتاً وأن يزيد الطلب على البترول، وبالتالي أتوقع أن يصل سعر البترول خلال عام 2010 إلى أكثر من 85 دولاراً للبرميل الواحد، ونتيجة لارتفاعات أسعار البترول فسوف تزيد إيراداتنا الوطنية وبالتالي سوف يزيد الإنفاق الحكومي لتحقيق مزيد من برامج ومشاريع التنمية المستدامة، وسوف يتلو ذلك موجات جديدة من التضخم الذي سيعالج برفع سعر الفائدة بشكل تدريجي محسوب.