تجزئة البنوك: إيجاد القيمة وسط الركام
هنالك صناعة كاملة جديدة تظهر نتيجة للأزمة المالية، حيث يتطلب الأمر التعامل مع قضية حديثة تتمثل في كيفية معالجة البنوك الفاشلة. وقد حوّل أستاذ النشاطات المصرفية والمالية في إنسياد، جان ديرماين اتجاه أبحاثه في هذه القضايا المستمرة منذ ربع قرن، حيث انتقل إلى موضوعات أكثر تركيزاً على المستقبل، وذلك من خلال كتابه ''تقييم البنوك والإدارة القائمة على القيمة. وقد ركز فيه على الدعوة إلى نظرة استثمارية طويلة الأجل، بدلاً من التركيز على التدفق النقدي قصير الأجل، حيث يرى أن النظرة طويلة الأمد يمكن أن تجعل النشاطات المصرفية أقل خطورة، كما أن من شأنها جعل العالم المالي أقل شكوكاً، إضافة إلى تقليل فرص الصفقات غير المدروسة جيداً.
إنها بالفعل فكرة أنيقة وجيدة، وجرى تجاهلها على نحو واسع في تعاملات العالم المتوحش الذي اتصف بالعوائد المرتفعة جداً لبداية فترة القروض الرهنية. وينظر الأستاذ ديرماين من خلال كتابه الجديد بعين ثاقبة، وبعدسة جديدة، إلى النشاط المصرفي، ويتساءل لماذا يجب علينا أن ننظر بدقة إلى الأشياء الجيدة؟
وهو يرى أن التاريخ كان يحفل بعدد كبير من الأزمات المصرفية بسبب الخطأ في تسعير المخاطر، إذ كانت البنوك، على نطاق واسع، تتطلع إلى تحقيق الأرباح المرتفعة قصيرة الأجل على القروض الخطرة ذات الفوائد المرتفعة للغاية. وبالتالي ظهرت هنالك القروض متزايدة الخطورة. ويقول إن البنك الذي كان يقدم قرضاً لمدة خمس سنوات بفوائد مرتفعة كان يعتقد أنه أنجز صفقة رائعة في عام رائع، ولسنوات رائعة.
الحقيقة في رأيه أن ذلك النشاط كان يركز على الأجل القصير، بدلاً من تحقيق القيمة الفعلية. ويقول ''إنك حين تريد أن تحقق القيمة، فإن عليك أن تنظر إلى الأجل الطويل. وحين تكون هنالك أرباح سريعة الأجل، فإنها لا بد أن تكون خيالية لأن المخاطر المستقبلية عالية للغاية. ولا بد للمستثمر الناجح من أن تتجاوز نظرته النطاق الضيق للتدفق النقدي في الأجل القصير. وعلينا جميعاً أن نتذكر المقدمات السابقة للقروض الرهنية التي حصل عليها ضعاف الملاءة والتي كانت بداية شرارة حريق الأزمة المالية العالمية''.
جاءت موجة سريعة للغاية من عمليات إغلاق البنوك، حيث كانت تذكيراً قوياً بما حدث في هذا الخصوص قبل أكثر من 80 عاماً حين كانت السلطات المختصة تسارع إلى إغلاق البنوك. وظهرت نظريات متعددة إزاء هذا الأمر، بينما استمر حدوث الأزمات. ويرى ديرماين أن أفكار تقييم البنوك ستمضي قدماً في سبيل منع موجة أخرى من حالات العجز عن الوفاء بالالتزامات من جانب البنوك.
يتابع ديرماين قضية تقييم البنوك انطلاقاً من نقطتين أولهما أنك إذا كنت تريد تصفية أعمال بنك ما، فإن عليك أن تحسب مقدار المنفعة العائدة إليك من ذلك. ولا بد من أن تدخل في اعتبارك مخاطر العجز عن سداد القروض. غير أنه إذا سمحت باستمرار عمليات البنك بصورة مدروسة، ولفترة أطول، فإنك قد تحصل على مزيد من الودائع بتكاليف معقولة، وتضمن عوائد أعلى نسبياً على القروض، وتستمر في بيع خدمات إدارة الأموال، وتقديم خدمات إدارة الموجودات. ولذلك فإن كتابه يتضمن تجزئة البنك إلى عدد من جيوب القيمة المتعلقة بعدد كبير من النشاطات.
ويركز النصف الثاني من هذا الكتاب على كيفية تحقيق الإدارة المصرفية القائمة على القيمة طويلة الأجل (على التركيز على التدفقات النقدية طويلة الأجل). ولا يمكن للبنوك في أيامنا هذا تجنب تلبية متطلبات توفير رأسمال كاف، حيث إن الحكومات في مختلف أرجاء العالم الذي يتبع مبادئ حرية عمل الأسواق تتشدد في هذا الأمر. ويشير المؤلف إلى دراسة حديثة أعدها جولدمان ساتش، حيث وردت فيها تعليقات على مثل هذه المتطلبات الرأسمالية الجديدة، كما أنها تدعي بأن البنوك ستعاني نتيجة لذلك. ''ستزداد رساميل البنوك كثيراً، وستتراجع مديونيتها بنسبة عالية. غير أننا حين نتحدث عن قيمة الشركة، فإننا لا نقتصر على عوائد الأسهم، بل يشمل ذلك المخاطر أيضاً. وبالتالي فإن البنوك ستتأثر فعلاً بزيادة متطلبات توفير رأس المال لأن ذلك سيقلل عوائد الأسهم لديها، بينما يبقيها في حالة تعرض أقل للمخاطر''.أما إذا أخذنا الأمور من وجهة نظر المستهلكين، فهل ستصبح تكلفة القروض أعلى في الوقت الذي تشتد فيه وطأة الأزمة الائتمانية على جيوب المستهلكين؟ويقول ديرماين ''إن تكلفة القروض سترتفع بالفعل. وإنني أرى أن ذلك يعتبر ممارسة اقتصادية سليمة، بما أن المخاطر سيتم تسعيرها بصورة صحيحة''. ويبدو أن الجهات التشريعية تؤيد وجهة نظر المؤلف هذه ''لدى مجلس المعايير المحاسبية الدولية اقتراح بإجبار البنوك على تخصيص المزيد من الأموال الاحتياطية لمواجهة ظروف القروض السيئة، وتركيز هذه الأموال لما يثبت أنه قروض ضعيفة الأداء، ومتعثرة على مدى زمني طويل''. ويدعو ذلك إلى الحذر حتى إزاء القروض الجيدة في الوقت الراهن، واحتساب احتمالات تعرضها للتعثر في المستقبل. ولذلك تؤيد السلطات التنظيمية التبكير في تخصيص الأموال تحوطاً لمثل هذه الاحتمالات.
ويرى ديرماين أن السياسة المصرفية المحافظة هي التي عملت على نجاة المصارف الإسبانية من آثار الأزمة المالية العالمية، ويقول في ذلك ''حين كان الاقتصاد الإسباني يعيش حالة من الطفرة، كان البنك المركزي الإسباني يجبر البنوك على الاحتفاظ باحتياطيات مالية مناسبة وديناميكية. وكان منطق ذلك هو أنه إذا دخلنا في حالة من الانكماش كما هو عليه الوضع في إسبانيا في الوقت الراهن، فإنه يكون بمقدور البنوك سحب أموال من تلك الاحتياطيات المالية''.
إن ما يرد في هذا الكتاب ليس مهماً فقط لإيجاد مثل هذه الاحتياطيات الضرورية، ولكنه مهم كذلك في تقييم الحوافز. فكيف يمكنك تقييم إدارة القروض، وكيف يمكنك التأكد من أنك تكافئ العاملين فيها على اتخاذهم قرارات جيدة؟ إن البنوك غالباً ما تتطلع إلى الأرباح قصيرة الأجل. وهي في حاجة ماسة إلى تحسين وسائل قياسها لأداء القروض، الأمر الذي يجبرها على إدراك المخاطر، وعلى تخصيص الأموال الاحتياطية على نحو أبكر.