"فتنة" الأسهم وأثرها في قطاع الإنتاج
إنها فتنة الأسهم التي عمت البيوت والشركات والأسواق.. تغلغلت في نفوس النساء والرجال والأطفال حتى أصبحت الشغل الشاغل لهم, بل من أولوياتهم الحياتية. ولعل هذا العيد السعيد يثبت هذه المقولة بعد أن دخلت على ثقافتنا الاجتماعية رسائل التهاني المرسلة عن طريق الهواتف الخلوية, وهي رسائل تحمل مجموعة من الكلمات الاستثمارية المستخدمة في سوق الأسهم. ولا أستبعد أن تكون هناك رسائل غرامية تكتب بمصطلحات الأسهم وربما أسماء الشركات أيضا. فنرى العاشق المتيم ينادي محبوبته بـ "اللجين" مثلا وإذا زاد عشقه بها شبهها بـ "سابك" لغلاء ثمنها وقيادتها السوق كما تقود الريم قطيع الغزلان. إنها ثقافة الأسهم التي مسحت كل ثقافة وأصبحت الهوى لمعظم فئات المجتمع دون تمييز.
إنها قضية اقتصادية اجتماعية بدأت في التبلور والتضخم, أسهمت في تغيير العادات والثقافات والعلاقات الاجتماعية والأسرية. بدأت في تحويل جزء لا يستهان به من المجتمع إلى مجتمع مادي يبحث أفراده عن الكسب السريع ويقيمون علاقاتهم بموازين المصلحة والانتفاع. مجتمع تحيي جلسات أفراده بأخبار الأسهم وشجونها وينشغل أهله بالتوصيات والمنتديات وأسواق الأسهم, وكأن الزمن لم يعد يتسع لشيء آخر غير الأسهم. بعض المتداولين لم يعد يكترث بمواعيد الصلاة, خصوصا صلاة المغرب التي تأتي ضمن فترة التداول المسائية، وإن أداها فيؤديها على عجل، والله أعلم بما في قلبه من خشوع. فتنة غريبة تفرض علينا التمعن فيها ودراستها وتنادي علماء الاجتماع والنفس قبل الاقتصاد لإعداد الدراسات والبحوث المتخصصة حول هذه الظاهرة الغريبة التي اخترقت السوق السعودية نحو أسواق الخليج. وطالما أن موضوع البحث والتنقيب قد ترك لأصحاب الشأن من الأكاديميين المتخصصين, فلا مانع من مناقشة بعض القضايا التي ربما ساعدت على الخروج من هذه البوتقة التي تكاد تخنق كل مَن فيها.
الملاحظ أن سوق الأسهم السعودية قائمة على عنصر المضاربة قصيرة الأجل، متجاهلة عنصرا مهما من عناصر التداول في سوق الأسهم, وهو عنصر الاستثمار متوسط وطويل الأجل. ويرجع ذلك إلى ثقافة المتداولين وأسلوب المضاربة الطاغي على السوق والذي يحرك الأسعار إلى مستويات قياسية يسيل لها لعاب المتداولين, إضافة إلى أن السوق تفتقر إلى القوانين والأنظمة التي تدفع المتداولين نحو الاستثمار عوضا عن المضاربة، ويدخل في هذا الباب نظام الإقراض المصرفي وأسعار الفائدة وقوانين التملك الاستثماري الإلزامي وقوانين الإفصاح الشامل وليس الجزئي المتبع حاليا، وغيرها من القوانين والأنظمة.
سوق المضاربة جعلت المتداولين رهينة لساعات التداول ولشاشات الأسهم لا يمكنهم الفكاك منها، وكأنهم أدمنوا مشاهدتها وتلقف الأخبار منها، كما أنها أثرت فيهم من جوانب اجتماعية كثيرة، وجعلت من أخلاقهم وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية وأنشطتهم الأخرى رهينة لتوجّه مؤشر الأسعار.
سوق المضاربة حرمت بعض الاقتصاديين من تخصصاتهم التجارية والإنتاجية وأثرت سلبا في قطاعات الاقتصاد الأخرى, فأصبح لدينا قطاع اقتصادي أوحد يستأثر بمعظم الاستثمارات المالية, وهو خلل اقتصادي كبير يستوجب المعالجة الفورية. هناك تأثر ملحوظ بسوق العقارات وبناء المصانع وإشهار الشركات, بل هناك شبه شلل في بعض الشركات المساهمة التي امتنعت عن التوسع في أنشطتها المنتجة أو عدلت في أنشطتها من أجل استثمار الفوائض المالية المتاحة لها في سوق الأسهم. أصبحت هناك محافظ للأسهم تتسمى باسم تلك الشركات المساهمة وتحقق عوائد مالية ضخمة تفوق العوائد المحصلة من العمليات التشغيلية.
الاستثمار في الأسهم يشكل جزءا من الاقتصاد العام للدولة، وهو أحد أهم الأجزاء المؤثرة في الاقتصاد الوطني، إلا أنه لا يمكن القبول بتفرد الجزء على الكل واستئثاره بجميع الاستثمارات المتاحة للمواطنين، خصوصا أن الاستثمارات المالية في سوق تداول الأسهم لا تعدو أن تكون نقل ذمم مالية من أطراف مختلفة دون أن تحقق قيما مضافة للاقتصاد بشكل عام.
السيولة المتضخمة هي التي تقود السوق وهي المحرك الرئيس لأسعار الأسهم التي بلغت عنان السماء حتى أصبحت عامل جذب للرساميل والمدخرات البسيطة التي تبحث عن الكسب السريع ولا تهتم، أو ربما لا تعترف، بمبدأ القيمة المضافة للاقتصاد الوطني. إذاً مَن الذي يجب عليه التفكير في مجريات الاقتصاد العام ويضع الاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق الأهداف الشخصية والأهداف العامة على حد سواء؟ إنها مؤسسات الدولة المتخصصة التي حملت مسؤولية تنمية الاقتصاد وحمايته من المخاطر، وأهم تلك المخاطر أحادية الاستثمار والتوجه. يُفترض أن تنشط الجهات الرسمية ذات العلاقة في إعادة غربلة استراتيجيات المضاربة من خلال طرح شركات عملاقة تدعم الاقتصاد الوطني وتساعد على تنمية الفرد والمجتمع وتسهم في تنويع مصادر الدخل وتساعد على امتصاص السيولة وزيادة عدد شركات السوق. الاستثمار المباشر في سوق الإصدار يعني استثمارا في التنمية وخلق منشآت اقتصادية تسهم في زيادة الناتج العام للدولة. الاستثمار المباشر في تأسيس الشركات المنتجة الجديدة كفيل بامتصاص الفوائض المالية الضخمة وتوجيهها نحو قطاع الإنتاج, ومن ثم طرحها مرة أخرى في سوق الأسهم مشكلة زيادة حقيقية لعدد شركات السوق.
يشعر المراقبون بانزعاج مشوب بالحذر كلما زاد حجم التداول اليومي في سوق الأسهم, ويرجع ذلك إلى أن الزيادة الضخمة في حجم التداول لا تقابلها زيادة في عدد الشركات المدرجة في السوق. أي أن الأمر لا يعدو أن يكون تدويرا لأسهم الشركات القائمة من خلال ضخ أموال إضافية تسحب من قنوات استثمارية أخرى، وهنا يكمن سبب الضيق.
إذا كان الاقتصاد الحر يهدف إلى رفع الوصاية عن المستثمرين وتخصيص القطاعات الحكومية, فإن ذلك لا يعطي العذر لوزارات الاقتصاد والتخطيط والتجارة بأن تتنازل عن دورها القيادي والمنظم للاقتصاد السعودي. الاقتصاد السعودي في حاجة ماسة إلى إعادة رسم استراتيجياته المستقبلية واستغلال موارده ومدخرات أفراده الاستغلال الأمثل. هناك حاجة ملحة لخلق شركات منتجة متخصصة في مجالات الطاقة والتحلية والمصافي والنقل والتأمين والصناعة، وهي شركات ضخمة لا يمكن للمستثمرين تكوينها بمجهوداتهم الفردية. مثل تلك الشركات تحتاج إلى تخطيط ودراسة من قبل الدولة وطرحها كمشاريع استراتيجية مكتملة للاكتتاب العام من أجل تحقيق أهداف الدولة الخاصة وتحقيق رغبات المستثمرين في الحصول على الأرباح المجزية. شركة سابك كانت الأنموذج الناجح لطرح الشركات الاستراتيجية من قبل الدولة كمشروع متكامل يخصص جزءا منه للمواطنين. الاقتصاد السعودي في حاجة لاستنساخ هذا الأنموذج حتى نحصل على شركات أخرى عملاقة في قطاعات الطاقة, التحلية, المصافي, النقل, التأمين, والصناعة. تتكفل الدولة بإجراء الدراسات الاقتصادية الخاصة بتلك المشاريع ومن ثم تطرحها كفرص استثمارية للقطاع الخاص. إضفاء طابع الاستثمار على سوق الأسهم من خلال طرح الشركات الضخمة كفيل بإعادة ترتيب سوق التداول وبإشاعة جو من الاستقرار السعري وسيحد من المضاربات وسيبث نوعا من الارتياح والاطمئنان في نفوس المستثمرين, ما يجعلهم أكثر تفرغا لمسؤولياتهم الحياتية التي كادت تضيع في سوق المضاربين.