السماسرة وأحكامهم عند الإبياني

السماسرة وأحكامهم عند الإبياني

اهتم الفقه الإسلامي بأحكام السوق وما يتعلق به، وظهرت الكتب التي تنظم عمل السوق والمشتغلين به، ومن بين هؤلاء ما يسمى السماسرة، إذ إن كتب الفقه أولتهم عناية خاصة، وتحدثت عن مهنتهم ونشاطهم وعلاقتهم بالتجار وسائر المرتادين للسوق، لأن عمل السمسار مهم في الترويج للسلع، من أجل بيعها بأحسن الأسعار، فهو ينادي للبيع فيذكر مواصفات السلعة وجودتها وأهميتها ومزاياها، كما أنه عنصر مهم في عمليات البيع بالمزايدة العلنية، فيعرض السلعة ويذكر آخر ما دفع فيها من ثمن، للبحث عن ثمن أفضل، وكان السماسرة يعرفون بالدلالين والمنادين والطوافين والصائحين، لأنهم ينادون ويصيحون على السلعة وثمنها، وأحيانا يطوفون على التجار لإغرائهم بالشراء، ولم تكن مهمتهم محصورة في المناداة على السلع المعروضة للبيع فقط، بل كان من واجباتهم الإعلان عن العقارات التي يراد تأجيرها، وقد كان الفقهاء في الأندلس يقولون بوجوب دخول عقار الوقف في المزايدة للبحث عن أفضل الأسعار لأنه مال العامة.

وكانت الأحكام المتعلقة بالسماسرة ترد في فصول كتب الفقه بشكل عام، أما كتاب “مسائل السماسرة” - لأبي العباس عبد الله بن إسحاق الإبياني (ت352هـ)- فقد اختص بالحديث عن السماسرة وأحكامهم، لبيان الإطار الشرعي الذي ينظم عمل الدلالين والوسطاء بين أصحاب السلع والمشترين، وما لكل طرف من حقوق وواجبات، وبخاصة السماسرة في هذا الكتاب، وذلك من أجل تنظيم عملهم وكي يعرف التاجر والمشتري ما يقع على السمسار من مسؤوليات وما له من حقوق أيضا، وقد حوى الكتاب كثيرا من مسائل السماسرة، وفتاوى في قضايا كانت تحدث في السوق ويختلف الناس حولها، فأراد الإبياني أن ينظم هذا العمل كي يعرف كل طرف حدود مسؤولية الطرف الآخر.

ومن القضايا التي عرض لها قوله: “سألت أبا العباس عبد الله الإبياني عن السمسار يعطى الثوب لينادي عليه، فيبلغ في حده ما بلغ فيقره عند التاجر الذي أراد شراءه ليشاور صاحبه، فيضيع الثوب عند التاجر. هل يلزم أم لا؟ وهل يلزم التاجر أم لا؟ وأرأيت إن أقر التاجر أنه تلف عنده، وقال: لم يلزمني الآن شراء، أيضمن؟ فقال لي: إذا أقر التاجر أنه قبض الثوب من السمسار وزعم أنه ضاع، فالتاجر ضامن لقيمة الثوب إلا أن يقيم التاجر البينة بضياعه فيسقط عنه الضمان، لأنه إنما أخذه على الشراء، ولم يأخذه على الأمانة”، ونلاحظ هنا أن حكم الأمانة يختلف عن حكم ما يضيع أثنا تبادل عمليات الشراء، لأن السمسار وضعه عند التاجر على نية الشراء ولم يضعه على نية الأمانة، ويصبح التضمين هنا مبني على ادعاء التاجر وتقديمه البينة فقط.

ومن المسائل التي ذكرها أيضا، قوله: “سألته عن السمسار إذا لم يجد في الثوب زيادة، وخاف إن باعه من الذي عليه العطاء أولا أن يكسر عليه (أي ينقص من ثمنه) أو يسيء معاملته في الوزن، هل ترى جائزا أن يبيعه من غيره بالعطاء الذي أعطي فيه إذا لم يجد فيه زيادة، إذا كان يحسن معاملته، وإن لم يكن العطاء له؟ فقال: الأول أولى به، فإن لم يتم له الشراء فله أن يقدمه إلى القاضي، إلا أن يكون قد علم بسوء معاملته، ويعلم أنه لا يبايعه في ذلك، فلا بأس أن يبيع ممن يوافيه، ولا يكسر عليه”، وهذه من المسائل الواقعية التي ربما تحدث في الأسواق وبخاصة مع السماسرة، فعندما يدلل على البضاعة ويزايد عليها التجار فإن آخر واحد يدفع سعرا، تكون البضاعة من نصيبه، لكن السمسار وهو أدرى بأحوال التجار فإنه يعرف من يدفع الثمن المتفق عليه ومن ينقص منه، فإذا كان من دفع آخر سعر من الصنف الذي يكسر الثمن فإن للسمسار أن يبيع غيره، إن كان متأكدا من علمه، وإن لم يكن فيحيل القضية إلى القاضي.

ومن مسائل السماسرة ما ذكره بقوله: “سألته عن السمسار يبيع الثوب بعد الاستقصاء وبذل المجهود من قبل أن يشاور صاحبه، هل يجوز بيعه أم لا؟ وهل يكون لصاحب الثوب أن يرد البيع؟ فقال لي: لا يجوز البيع إلا بإذن صاحبه، إلا أن يكون صاحبه فوض إليه ذلك، وقال لي: وقد قال سحنون (وهو من علماء المالكية في أفريقيا): لا يجوز أن يصيح على سلعة ما ويأخذ عليها جعلا إلا أن يجعل له البيع”، وقد علق محمد بن الهادي أبو الأجفان على هذه المسألة بقوله: “فعلى القول الأول ليس السمسار وكيلا في الأصل، وإنما هو أجير، ولا يبيع إلا بإذن صاحب السلعة، وإذا وكل إليه البيع كان له أن يبيع بدون إذن ثان، وعلى قول سحنون لا يبدأ السمسار عمله إلا إذا فوض إليه البيع”، ويبدو أن أي بائع يضع سلعته عند سمسار ليدلل عليها فإنه ضمنا يكون قد أقر بوكالته عليها وأحقيته في بيعها، لأنه صار له وكالة على السلعة لغايات البيع، إلا أن يكون هناك اتفاق يقضي بغير ذلك، وهو ما قال به سحنون في المسألة السابقة.

ومن المسائل التي كانت تقع في السوق مسألة البيع لتاجر غير معروف، ثم بيعه بزيادة لتاجر آخر، ومن ذلك قوله: “وسألته عن السمسار يقر بالثوب على التاجر بثمن معلوم ويشاور صاحبه فيأمره صاحبه بالبيع، وصاحب الثوب لم يعرف التاجر الذي باع منه ولا يدري من هو، فيمضي السمسار ليقبض الثمن فيقول له تاجر آخر: الثوب الذي كان في يدك علي فيه زيادة، فيقول له السمسار: إن صاحبه قد باعه من غيرك وكان هذا بعد الاستقصاء، فيقول صاحب الثوب: إني بعت من رجل لا أدري من هو، فهل ترى هذا بيعا ثابتا قد وجب الثوب للذي هو عنده ولا تقبل زيادة هذا؟ فقال لي: يلزمه البيع للذي شاور عليه فباع منه به، ولا يكون لمن زاد بعد ذلك في ثمن الثوب من الشراء شيء”، فالبيع يتم على آخر سعر اتفق عليه في نهاية التدليل على السلعة، وبعد ذلك لا يجوز بيعه بزيادة أخرى.

ومن مسائله قوله: “وسألته عن السمسار ينادي على الثوب فيبلغ ثمنا معلوما على رجل من التجار، ثم يطلب السمسار الزيادة، فلا يجد أحدا يزيد شيئا، فيقول له تاجر آخر: أنا آخذ منك بهذا الثمن الذي ذكرت أنك أعطيته، ويطلبه آخر بذلك الثمن أيضا، ويطلب منهم الزيادة فلا يجد أحدا يزيد شيئا عن الثمن الأول، من ترى أولى به؟ الذي بلغ عليه الثمن أولا أو يبيعه السمسار ممن أحب إذا لم يجد زيادة؟ فقال لي: “الأول أولى بالثوب وهو قول عيسى بن دينار (وهو فقيه مالكي من طليطلة)، وأما ابن القاسم (من أصحاب مالك وعلماء مذهبه) فإنه يقول: يبيع لمن أراد، ويفضل به من أراد إذا كان العطاء واحدا” .

الأكثر قراءة