الوعود.. أداة فاعلة في هيكلة المنتجات المالية الإسلامية
تلعب هياكل الوعد دوراً مهماً في تطور صناعة الخدمات المالية الإسلامية. وقد انتقدها كثير من المراقبين في الصناعة لأنها أدخلت معها عدداً من الحلول المالية الغربية (غير المرغوبة) إلى صناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي. مع ذلك فقد أثبتت أنها أداة فاعلة في هيكلة المنتجات المالية الإسلامية المبتكرة.
هيكل الوعد (كما هو معروف في الشريعة الإسلامية) هو تعهد من طرف واحد (الواعد) للقيام بأمر ما (مثل شراء أو بيع أحد الموجودات) لصالح شخص آخر (الموعود)، مقابل رسم معلوم خلال (أو عند) فترة معينة من الزمن. تعتبر الوعود في الشريعة الإسلامية هياكل شبيهة بالعقود، وتكون ملزِمة لطرف واحد فقط في الترتيب التعاقدي، وهو الواعد. هذه السمة المثيرة للاهتمام في الوعود تجعلها اتفاقية ممتازة يمكن أن تقوم عليها هيكلة الخيارات الإسلامية والأنواع الأخرى من عقود المشتقات. والواقع أن هذه السمة بالذات في الوعود هي التي استخدمها عدد من البنوك الغربية الاستثمارية التي طرحت نطاقاً جديداً من المنتجات المهيكلة الإسلامية. هذا الجانب من الوعود يمكن استخدامه كذلك لهيكلة العقود الآجلة الإسلامية.
من المهم أن ندرك أن الوعود الأحادية (من جانب واحد) هي المفيدة في هيكلة المنتجات المذكورة آنفاً. الوعود الثنائية التي يتبادلها طرفان اثنان تعد ملزِمة لهما، وبالتالي فإنها تعد بمثابة عقد لا يعطي خيارات سواء للموعود أو الواعد. لكن حين يتم إدخال تغييرات طفيفة في عوامل الاتفاقية فإن ذلك يساعد على إنشاء وعود أحادية يمكن استخدامها في الهياكل المنسجمة مع الحوافز في منتجات الخيارات والعقود الآجلة والمشتقات. الوعود الثنائية، رغم أنها جائزة شرعاً، إلا أنها لا تعد ملزِمة في معظم التعاملات المشتملة إما على تأخير دفع السعر وإما تأجيل تسليم البند الذي هو موضوع البيع.
على سبيل المثال، إذا أعطى الشخص (أ) وعداً من طرف واحد لشراء السهم (س) من الشخص (ب) بتاريخ لاحق مقابل سعر معين، ثم يعطي (ب) وعداً من طرف واحد لبيع السهم (س) إلى (أ) بتاريخ لاحق مقابل سعر معين، فإن الوعدين معاً يعملان بمثابة وعد ثنائي. من وجهة النظر الشرعية يفترض أن هذين الوعدين ملزِمان للطرفين، على اعتبار أنهما بمثابة عقد تام. يجب أن نلاحظ في هذا الصدد أن هذا الترتيب الوعدي الثنائي ينشئ عقداً للبيع الآجل، وهو أمر محرم في العقود الإسلامية.
لكن إذا أعطى (أ) وعداً أحادياً بشراء السهم (س) من (ب) بتاريخ لاحق (ت1) مقابل سعر معين، وأعطى (ب) وعداً أحادياً ببيع السهم (س) إلى الشخص (أ) بتاريخ لاحق (ت2) مقابل السعر المعين، فإن الوعدين معاً لا يشكلان وعداً ثنائياً لأنهما يشيران إلى تاريخين مختلفين للتنفيذ. بالمثل، إذا كانت جميع جوانب الوعدين هي نفسها باستثناء اختلاف السعرين الموعودين، فإن الوعدين سيعتبران أحاديين، وبالتالي ملزِمَين للطرفين الواعدين فقط. يجد القارئ صورة ملخصة عن هذا التحليل في الجدول رقم (1).
يمكن الاستفادة من وعدين أحاديين والوعود الملزِمة باتجاه واحد في هيكلة بعض المنتجات المالية الإسلامية المتطورة. بعض البنوك طورت عدداً من الهياكل المتفقة مع الأحكام الشرعية، مثل عقود التأمين المتبادل والخيارات ومنتجات مشابهة على أساس الوعود الأحادية. الواقع أن بإمكان الوعود أن تلعب دوراً أوسع حتى من ذلك، في تطوير عدد من المنتجات المالية المتطورة للغاية، مثل المشتقات المرتبطة بالصناديق.
نركز في هذا المقال على هيكل محتمل للخيارات الإسلامية. هناك عدد من التطبيقات المهمة الأخرى للوعود في المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي. الأشخاص العاملون في هيكلة المنتجات التي من هذا القبيل يدعون أن منتجاتهم متفقة مع الأحكام الشرعية ويجادلون حتى بالمزيد من الاستخدامات المتطورة للوعود في المصرفية الإسلامية. لكن هناك مجموعة من المراقبين في الصناعة يعتبرون أن التطورات التي من هذا القبيل غير سليمة.
يمكن للوعود أن تكون لها مضامين مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بهيكلة الخيارات المالية المتفقة مع الأحكام الشرعية. لكن هناك بعض الأسئلة الجوهرية التي لا بد من الإجابة عنها قبل أن نحاول اقتراح استخدام الوعود في هيكلة الخيارات الإسلامية. من هذه الأسئلة:
هل تتمتع الوعود بقيمة اقتصادية؟
هل يمكن بيع الوعد مقابل مبلغ من المال؟
ما العقوبة التي ينبغي فرضها في حالة التراجع عن العقد؟
يمكن أن تكون للوعود قيمة اقتصادية في حالة واحدة فقط، وهي حين تكون ملزِمة، وفي هذه الحالة فإن الطرف المتراجِع عن الوعد سيكون مطالَباً بأن يدفع غرامة تعادل الخسارة النقدية الفعلية التي يتكبدها الموعود. لكن لا يمكن بيع الوعود «العائمة» مقابل مبلغ من المال، كما هي الحال في الخيارات التقليدية، التي بموجبها يدفع مشتري الخيار (الموعود) مبلغاً معيناً مقابل حق الشراء أو البيع في المستقبل. وعلى الرغم من أن بعض الفقهاء الشرعيين المعاصرين يرون أن الوعود العائمة يمكن بيعها مقابل سعر معين، إلا أن عدد هؤلاء الفقهاء لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. بالتالي لا بد من مراعاة الحذر بخصوص هذا الرأي أثناء هيكلة المنتجات المالية الإسلامية. هناك بعض البنوك الغربية التي تجادل بقوة في سبيل تسعير الوعود في التمويل الإسلامي، لكن لا تزال هناك مقاومة لهذه الفكرة.
#2#
إذا وضعنا هذه القيود نصب أعيننا، يمكن استخدام الوعود وربطها بالمرابحة عند هيكلة الخيارات الإسلامية. لنفرض أن الطرف (أ) يريد حماية نفسه من مخاطر التراجع في سعر سهم معين (وهو أمر شبيه بشراء خيار البيع للحماية). بالنظر إلى القيود الشرعية فإن خيار البيع التقليدي أمر غير ممكن، وبالتالي يدخل الطرف في الترتيب التالي:
يشتري (أ) السهم من (ب) على أساس المرابحة، بحيث يُسلِّم (ب) السهم إلى (أ) بتاريخ (ت 0) مقابل سعر يُدفَع بتاريخ (ت1). سعر المرابحة (عم) يكون أعلى من سعر السهم الحالي في السوق، ومن الممكن أن يشتمل على «رسم إضافي». بعد ذلك يعِد (ب) بشراء السهم من وسيط مالي (أو من البورصة) مقابل سعر محدد (ع)، بتاريخ لاحق، هو (ت1) (خيار البيع الأوروبي). السعر المتفق عليه (ع)، ربما يكون مختلفاً عن سعر المرابحة (عم). عند تلَقِّي الوعد (1) فإن الوسيط المالي يَعِد بشراء السهم من (أ) مقابل السعر المحدد نفسه (ع) بتاريخ لاحق هو (ت1).
هذا الترتيب الوارد أعلاه (والذي يأتي على شكل بياني في جدول رقم 1) ينبغي أن يحل محل خيار البيع التقليدي.
السيناريو رقم 1
لنفرض أن السعر الموعود (ع) يساوي فعلاً سعر المرابحة (عم)، وفي التاريخ (ت1) كان سعر السهم في السوق، (عو)، أقل من (ع). بالنظر إلى الفرق الموجب (ع - عو > 0) بين ع (السعر الذي يدفعه أ إلى ب مقابل السهم) وبين (عو) (السعر الذي يمكن أن يطلبه أ من الوسيط المالي)، فإن (أ) سيجعل الوسيط المالي ينفذ وعده ويشتري السهم منه. الوسيط المالي من جانبه سيجعل (ب) ينفذ وعده بشراء السهم منه. في هذه الحالة ستنتقل خسارة الوسيط المالي إلى (ب). لكن إذا كان (عو > 0) فإن (أ) لن يكون مهتماً بالوعد الذي قطعه الوسيط المالي، على اعتبار أن بيع السهم إلى الوسيط سيتسبب في خسارة إلى (أ). بالمثل فإن الوسيط لن يُفعِّل الوعد (2). النتيجة النهائية مبينة في الجدول رقم (2)، الذي يبين بوضوح أن هذا الترتيب يعطي الطرف (أ) حماية في حالة هبوط السعر، وهي من سمات خيار البيع المحمي في التعاملات التقليدية.
السيناريو رقم 2
من الممكن تماماً أن يكون السعر الموعود (ع) مختلفاً عن سعر المرابحة (عم). تشير النتائج إلى أنه رغم أن الخيارات الإسلامية يمكن أن تعطي حماية ضد تراجع السعر للشخص الذي يشتري خيار البيع، إلا أن مستوى الحماية ربما يتناقص من الناحية الفعلية. إضافة إلى ذلك فإن الجمع بين المرابحة والوعود ينتج عنه هيكل يسمح باقتسام الربح والمخاطرة بين الأطراف. وهذا الترتيب، على خلاف خيار البيع التقليدي الذي يعطي حماية ضد تراجع السعر إلى المشتري، فإن خيار البيع الإسلامي يقلص من المخاطرة على نحو يجعل الطرفين يقتسمان المخاطر في النهاية.
تشير الأمثلة المذكورة آنفاً إلى أن آلية عمل خيار البيع الإسلامي تختلف إلى حد ما عن عمل الخيار التقليدي. في خيار البيع التقليدي يفرض مشتري الخيار رغبته في أن يطرح السهم للبيع بعد أن يكون قد دفع «رسماً إضافياً»، أما مشتري خيار البيع الإسلامي فإنه يفرض رغبته بعد أن يكون قد اشترى السهم فعلاً من البائع (الطرف ب في الأمثلة المذكورة آنفاً) على أساس المرابحة. في خيار البيع التقليدي فإن السهم موضوع التعامل ينتهي به المطاف لدى صاحب خيار البيع بعد أن يكون قد مارس الخيار. لكن في خيار البيع الإسلامي فإن السهم موضوع التعامل يعود إلى البائع الأصلي (الطرف ب) بعد أن يكون حامل خيار البيع قد مارس خياره. يبين الجدول رقم 4 الفروق الرئيسية بين خيار البيع الإسلامي وخيار البيع التقليدي.
ربما يبدو أن بيع خيار البيع الإسلامي ليس فكرة جذابة. بائع الخيار الإسلامي يتلقى رسماً إضافياً يكون مُدمَجاً في سعر المرابحة، حين لا يقوم حامل خيار البيع بممارسة الخيار المتاح له؛ ويستفيد من عدم وجود الرسم الإضافي حين تتم ممارسة خيار البيع الإسلامي، ويبقى بالتأكيد مع سهم انخفضت قيمته. لكن الجمع بين بيع الخيار الإسلامي مع خيار الشراء التقليدي له مضامين مثيرة للاهتمام بالنسبة لصافي المبالغ التي يتلقاها الطرف البائع. وإن الجمع بين الهياكل التي من هذا القبيل هي وصفة للنجاح، وهذا هو المجال الذي يتوقع منه أن يفيد اللاعبين في صناعة التمويل الإسلامي في المستقبل القريب.
د. همايون دار
كبير الإداريين التنفيذيين في بنك بي إم بي الإسلامي في بريطانيا
عضو في المجلس الاستشاري لمعهد المصرفية الإسلامية والتأمين الإسلامي