الحل المتمثل بالتضخم
لطالما اعتبر التضخم آفة وعائقا أمام الاستثمار وضريبة على الاقتصاد في النفقات. لذا يبدو من الغريب أن يوصف التضخم الآن باعتباره حلا للمشكلات الاقتصادية التي يعانيها العالم الغني. وتبدو الحجج مقنعة للوهلة الأولى. فلو كان للبنوك المركزية هدف أعلى للتضخم، سيسمح هذا بإجراء تخفيضات أكبر في أسعار الفائدة الحقيقية خلال فترة الركود. ويسهل التضخم الأسرع استعادة التكاليف التنافسية في الصناعات والمناطق المتضررة. وسيساعد على تخفيض أعباء ديون القطاعين العام والخاص التي تثقل اقتصادات العالم الغني. لكن في الممارسة العملية، فإن للسماح للأسعار بالارتفاع بصورة أسرع تكاليف وفوائد على حد سواء.
لا شك أن وجهة النظر السائدة المتعلقة بالتضخم بدأت بالتغير, فالدراسة الجديدة الصادرة عن صندوق النقد الدولي التي شارك في تأليفها كبير الاقتصاديين في الصندوق تشير إلى أن التضخم المنخفض جدا قد يضر أكثر مما ينفع. أما البحوث التجريبية فهي أقل وضوحا فيما يتعلق بالآثار الضارة على الناتج حين يرتفع التضخم كثيرا. وبالتالي فإن هدف التضخم البالغ 4 في المائة قد يكون أفضل من الهدف البالغ 2 في المائة لأنه سيتيح المجال أمام السياسة النقدية للاستجابة بصورة أكثر قوة ''للصدمات'' الاقتصادية. وإذا ارتفع معدل التضخم المتوقع بواقع درجة أو أكثر، سترتفع الأجور وأسعار الفائدة استجابة له. وستؤدي المعدلات الأعلى اللازمة في الأوقات العادية إلى إيجاد مساحة لإحداث تخفيضات أكبر خلال فترات الركود.
وغالبا ما يرتبط هذا الجدل بجدل آخر: وهو أن التضخم المرتفع يدفع عجلة الاقتصاد. ومن الأفضل أن يتم ربط الأجور بالإنتاجية، إلا أن العمال لا يريدون عادة التعرض لتخفيضات الأجور التي تكون ضرورية أحيانا للحفاظ على هذه العلاقة. وارتفاع معدل التضخم قد يسهّل تعديل الأجور النسبية. فمن السهل إخفاء تخفيض في الأجور الحقيقية حين يكون التضخم 3 ـ 4 في المائة عنه حين يكون 1 ـ 2 في المائة. فلو كان هدف التضخم للبنك المركزي الأوروبي أعلى مثلا، ستتمكن اليونان وأيرلندا وإسبانيا من استعادة القدرة التنافسية بسرعة أكبر وفي الوقت نفسه تجنب التخفيضات التي لا تحظى بالشعبية في الأجور الاسمية.
إن القلق بشأن المديونية يجعل التضخم يبدو أكثر جاذبية. فالإنفاق في الدول الغنية، مثل أمريكا وبريطانيا، سيتعثر طالما يتعين على الأسر سداد الديون التي حصلوا عليها لشراء المنازل الغالية. ومن شأن ارتفاع التضخم تسريع هذه العملية عن طريق تقليص القيمة الحقيقية للقروض العقارية. وسيكون للتضخم هذا التأثير المذهل نفسه في الديون الحكومية. وقد يعطي أيضا دفعة للإيرادات. ومن حيث المبدأ، قد يكون للجرعة المتواضعة من التضخم المسيطر عليه تأثير مذهل. لكن من الناحية العملية، قد يكون من الصعب تحقيق ذلك، وقد لا تكون الفوائد بهذا الوضوح. خذ الدين العام مثلا. لا شك أن التضخم ساعد على تقليل عبء الديون الحكومية لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الجزء الأكبر من التقلص جاء نتيجة نمو الناتج المحلي الإجمالي القوي وفوائض الميزانية. ويعتقد George Hall من جامعة Brandeis وThomas Sargent من جامعة نيويورك أن أقل من ربع التخفيض في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أمريكا بين الأعوام 1945 و1974 جاء من الأسعار الحقيقية السلبية للعائد على السندات الحكومية.
وتظهر حسابات Hall-Sargent أن كل هذه الضريبة التضخمية تقريبا وقعت على عاتق أولئك الذين يحملون سندات لها مدة استحقاق تبلغ خمس سنوات أو أكثر. (السبب في ذلك هو أن المستثمرين في السندات قصيرة الأجل قد يطالبون بشكل أسرع بأسعار فائدة أعلى للتعويض عن التضخم). ومن الصعب تكرار هذه الحيلة اليوم. فقد كان متوسط فترة الاستحقاق للديون الفيدرالية أكثر من سبع سنوات في الأربعينيات. ووفقا لـ Bloomberg، تبلغ متوسط فترة الاستحقاق المرجحة لجميع الديون العامة الأمريكية الآن حوالي خمس سنوات. واستخدام التضخم لخداع المستثمرين ينجح أكثر حين يكون الجزء الأكبر من الاقتراض في الماضي: كان لدى الحكومات حافز لإبقاء التضخم (وبالتالي عائدات السندات) منخفضا طالما أنها تصدر سندات جديدة لتغطية العجز الهائل في الميزانية. وهناك عقبة أخرى أمام ارتفاع التضخم، وهي أن الدول الغنية وعدت نفسها بتحقيق استقرار الأسعار, فلا يمكن للبنك المركزي أن يلزم نفسه بهدف تضخم بنسبة 4 في المائة بعد أن انتهك تعهده بإبقاء التضخم قريبا من 2 في المائة. وسيطالب مستثمرو السندات برفع أسعار الفائدة لتحمل مخاطر الزيادة المستقبلية في هدف التضخم، وكذلك مكافأة إضافية لتحمل العائدات الأكثر تغيرا (يكون التضخم الأعلى أكثر تقلبا). علاوة على ذلك، فإن عديدا من استحقاقات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية مشمولة في مؤشر الأسعار، وكذلك جزء كبير من الدين العام، لذا فإن التضخم الأعلى سيزيد الإنفاق العام.
زيادة العبء على المتقاعدين
سيكون التضخم نعمة ونقمة بالنسبة إلى القطاع الخاص أيضا. خذ بريطانيا مثلا، التي تبدو مرشحة محتملة للتضخم: فحكومتها تحدد هدف التضخم للبنك المركزي وقد أصدرت كثيرا من السندات طويلة الأجل. وإلى جانب التراكم السريع لديون بعض الأسر، هناك أيضا زيادة في الودائع النقدية لأسر أخرى. واستخدام التضخم لنقل الثروة من المدخرين إلى المدينين قد يساعد على زيادة الإنفاق. لكن هناك حدودا لنطاق فعل ذلك في دولة مثل بريطانيا (أو أيرلندا أو إسبانيا)، حيث ترتبط كل من المدخرات والقروض العقارية بأسعار الفائدة قصيرة الأجل. وسيسهم التضخم بمرور الزمن إلى تقليل العبء الحقيقي للديون لكنه سيرفع تكاليف الفائدة بصورة أسرع. ولن يحظى أيضا بالشعبية على الصعيد السياسي: عادة ما يكون المدخرون أكبر سنا، والمسنون يدلون بأصواتهم أكثر من الشباب. وسيكون ارتفاع التضخم بصورة غير مسبوقة والذي لم يكن من المتوقع أن يدوم بمثابة مرهم مهدئ لمعظم الاقتصادات الثرية المضطربة، لكنه ليس أمرا يمكن تنظيمه بسهولة. ومع ذلك، سيشعر أكثر المصرفيين المركزيين بندم كبير إذا ارتفع التضخم فوق 2 في المائة لفترة معينة دون إثارة قلق المستثمرين في السندات. وقد تكون أفضل سياسة هي التحدث بصورة كافية عن التضخم وفي الوقت نفسه إبقاء أسعار الفائدة منخفضة لأطول فترة ممكنة