مواجهة التاريخ

مواجهة التاريخ

هذه ليست المرة الأولى التي يشعر الأرمن فيها بموقف دفاعي في نضالهم من أجل الاعتراف بالمأساة التي حلت بأسلافهم خلال الحرب العالمية الأولى. وتشعر تركيا بالغضب، وتبذل الإدارة الأمريكية جهود جبارة للحد من الأضرار.
ويبدو أحدث انقطاع للعلاقات التركية ـ الأمريكية بسبب المسألة الأرمينية - بعد أن صوتت لجنة في الكونجرس في الرابع من آذار (مارس) بالاعتراف بحالات القتل التي وقعت عام 1915 باعتبارها إبادة جماعية - أكبر من بعض انقطاع العلاقات في السابق. فهو يتزامن مع احتكاك آخر بين أمريكا وحليفتها. فتركيا مترددة في فرض عقوبات على إيران. وتتزايد حدة المشاعر المعادية لأمريكا بين الأتراك. ويشك البعض أن باراك أوباما لا يزال على رأيه (الذي عبر عنه حين كان سيناتورا عام 2008) بأن ''الإبادة الجماعية للأرمن ليست ادعاء.. بل حقيقة موثقة على نطاق واسع''.
ومع ذلك، من المرجح أن تعيد تركيا سفيرها إلى واشنطن بعد فترة العبوس الطويلة، وستقنع الإدارة المشرعين بتفادي التصويت في مجلس النواب، خوفا من تقويض العلاقة المهمة- وتزايد احتمالات تدمير المصالحة بين تركيا وأرمينيا. وسيتم إجراء طقوس دبلوماسية مرهقة مرة أخرى.

هل ستكون نهاية سعيدة؟
هل يستطيع أي طرف فاعل في هذه الدراما أن يفعل أي شيء لتحسين السيناريو؟ يوما ما، سيصبح الزعيم التركي رجل دولة بما فيه الكفاية ليدرك أن تحقيق الكرامة الوطنية هو في الاعتراف بالخطايا التي تم ارتكابها على أرض الأناضول وليس عن طريق قمع النقاش ومعاقبة أولئك الذين يقولون الحقيقة. ويمكن لمثل هذا الزعيم أن يفصل العلاقات مع أرمينيا عن التاريخ العثماني. (على أية حال، يتعلق الجدل القائم اليوم بآثار الحرب بشأن Nagorno -Karabakh في التسعينيات وليس عام 1915).
ويدرك بعضهم في تركيا هذا. وقد اشار أحد كتاب الأعمدة الأتراك إلى أن حساسية تركيا تجاه تصويت لجنة الكونجرس يكشف ضعفها وليس قوتها. ولن يسكت أي شيء منتقدي تركيا إلا الجهود الحقيقية الحرة للتحقيق في أحداث عام 1915. ونتائج ترحيل الأرمن واضحة بصورة مثيرة للهلع، حيث توفي مئات الآلاف، ربما أكثر من مليون. إلا أن هناك مجالا لتحقيق علمي في آلية عمل الدولة الغامضة التي أدت إلى هذه النتيجة - تحديد ما إذا كانت المأساة ناتجة أساسا عن سابق إصرار وتخطيط أم نتيجة للإهمال. وتستطيع تركيا نزع سلاح منتقديها عن طريق دعوة جميع العلماء للاطلاع على محفوظاتها.
وبالنسبة إلى الأرمن، يعد ضمان الاعتراف بمصير أجدادهم قضية مقدسة. ولا يمكن أن نتوقع منهم وضع ذكرياتهم المريرة جانبا لأن صادرات الأسلحة الأمريكية عرضة للخطر (كما قال رؤساء خمس شركات كبيرة). ولن يقبل الأرمن أيضا الحجة القائلة إن تقييم عمليات الذبح عام 1915 هو عمل العلماء وليس السلطات السياسية، سواء التنفيذية أو التشريعية. وكما تظهر ملفات وزارة الخارجية، حللت الحكومة الأمريكية في ذلك الوقت هذه الأحداث ولم يكن لديها شك أن ''الإبادة'' هي الهدف.
ولكن إذا كان الأرمن يريدون زيادة احتمالات قيام السلطات في أنقرة في النهاية بالسماح بالبحث في أحد أحلك فصول القرن العشرين، قد يفكرون مليا بشأن حملتهم في الكونجرس. فالمجتمع التركي يشكك، أكثر من أي وقت مضى منذ إنشاء الجمهورية الحديثة عام 1923، في الحقائق الواردة. والفضل الأساسي في هذا يعود إلى الكتاب والصحافيين والمواطنين الذين يخاطرون بحياتهم للدعوة لتبني نهج أكثر نزاهة تجاه التاريخ. ومن بين أفضلهم هناك Hrant Dink، رئيس التحرير الأرمني الذي اغتيل عام 2007. فقد كان يعمل من أجل تحقيق مصالحة شاملة بين الأتراك والأرمن، بما في ذلك استعادة الحقيقة التاريخية، لكن لم يكن عمله مقتصرا على ذلك.
وقد كان يعتقد، إضافة إلى مواطنين أتراك آخرين يعملون من أجل العدالة التاريخية، أن الضغوط من الكونجرس قد تجعل الحقيقة أكثر مراوغة عن طريق تقوية القوميين. حتى بين الأتراك الذين يعتقدون أن عمليات الذبح عام 1915 كانت إبادة جماعية، هناك شعور بأن ذكر كلمة الإبادة الجماعية في قرار الكونجرس أمر لا يصب في مصلحتهم.
لو كانت تركيا دولة استبدادية، لما أمكن الدفاع عن ضبط النفس من جانب الأرمن. لكن لأن تركيا دولة ديمقراطية (وإن كانت ديمقراطية غير مثالية)، يجب أن ينصب التركيز على منح الأتراك أفضل فرصة ممكنة لمواجهة ماضيهم. وبدلا من الإملاء على الأتراك كيف يجب أن يكون رأيهم، يجب أن يحث الأرمن السلطات على تشجيع التحقيق داخل تركيا، بدءا من وضع حد لتدابير مثل المادة 301 (التي تجرم ''إهانة الأمة التركية''). وقد تحير فكرة قيام ديمقراطية تركية أقوى وأكثر صحة بعض الأرمن؛ لكنها أفضل طريقة لتحقيق النزاهة التي يتوقون إليها

الأكثر قراءة