دفن الخرافات والكشف عن الحقيقة
كانت الصناديق الـ 15 التي تحتوي على العظام ملفوفة في ألوان العلم الحمراء والصفراء والبنفسجية للجمهورية الثانية. وكان كل منها يحمل بقايا رجل أدى دعمه للتجربة السياسية القصيرة في الثلاثينيات إلى موته. وفي مراسم أقيمت في مدريد في السادس من آذار (مارس)، تم إعطاء العظام إلى أحفاد الموتى: ومعظمهم من الأحفاد في منتصف العمر، لكن أحيانا إلى أبناء أو بنات مسنين.
وقد بكوا على الرجال الذين لم يعرفوهم أبدا في الغالب. فقد توفي الضحايا من الجوع والمرض في أحد معسكرات الاعتقال المؤقتة التي أقامها الجنرال فرانسيسكو فرانكو في الأيام الأولى لنظامه الديكتاتوري الذي دام 36 عاما، والذي تم إنشاؤه بعد هزيمة الجمهورية في حرب أهلية دموية دامت ثلاث سنوات.
وقد تم الآن فقط، بعد 34 عاما على الانتقال السريع إلى الديمقراطية بعد موت فرانكو، إخراج الجثث من قطعة أرض مقفرة بالقرب من Burgos. ويقول Jose Maria Gonzalez، الذي قاد المجموعة التي ناضلت لإخراج الجثث: ''كان الأمر مؤثرا للغاية. فقد استعدت بقايا جدي. وهو أمر كنت قد وعدت والدي بفعله قبل أن يموت''.
وهذه القصة واحدة من مئات القصص عن القمع في عهد فرانكو الذي نشأ نتيجة تحرك المواطنين لنبش القبور وتحديد الضحايا. وقد بدأ حين كتب صحافي يدعى Emilio Silva مقالا عن وفاة جده على يد فرقة الموت التابعة لفرانكو. وقد ذهب إلى مسقط رأس جده في El Bierzo، شمال غربي إسبانيا، عام 2000. ودله بعض الأشخاص على المكان الذي تم فيه دفن الجثة. ونبش Silva مقبرة جماعية تضم عشرات الضحايا الآخرين, إضافة إلى جده. وانتشرت الأخبار عن نبش المقابر وزاد المقلدين له. وفجأة اكتشف الإسبان أن آلاف، أو عشرات الآلاف من ضحايا فرانكو، يكمنون في مقابر مجهولة منتشرة في جميع أنحاء الريف. وبعد سنوات من الصمت الرسمي، في عهد فرانكو، جاء عهد من الاتفاق غير الرسمي للنسيان حين اتفقت الديمقراطية الإسبانية الناشئة على النظر إلى الأمام، وليس إلى الوراء. وكسر حفارو القبور الصمت. وزادت جهودهم لمعرفة الحقيقة؛ والآن يقود Silva مجموعة تسمى جمعية استعادة الذاكرة التاريخية، لها فروع في جميع أنحاء إسبانيا. وتم انتشال نحو خمسة آلاف مجموعة من البقايا حتى الآن من 170 موقعا للمقابر. ولدى الجمعية قائمة تضم 12 ألف عائلة تبحث الآن عن بقايا أقربائهم المفقودين. في شتى الأماكن حول العالم التي تشوه تاريخها الحديث جراء القمع أو الحرب أو كليهما، يتم بذل محاولات من قبل السلطات (من الحكومات إلى قادة الحرب) لوضع قواعد بشأن ما يجب تذكره وما يجب نسيانه. وفي كثير من الأحيان، يبدو من الخطر إطلاق العنان للتحقيق وتذكر الماضي. إلا أن لصبر الناس حدودا؛ فعاجلا أم آجلا، سيتحدى المواطنون الحكمة السائدة ويطالبون برواية مفصلة. وغالبا ما يعني نبش الماضي هذا المعنى الحرفي، أي نبش القبور ودراسة الأدلة.
المشكلة بشأن الحقيقة
في أيرلندا الشمالية، بعد أكثر من عشر سنوات على انتهاء ''فترة الاضطرابات''، يقول نشطاء السلام إنه لا تزال هناك عقبات كبيرة أمام البحث عن الحقائق الكاملة. وربما يعكس هذا الطبيعة المتناقضة ''للتسوية'' المستندة إلى العفو الشامل. وبالنظر إلى أن المتشددين اكتسبوا النفوذ منذ توقف عمليات القتل، فإن المطالبين بقول الحقيقة الفعلية (نبش جميع الأسرار القذرة) ضعفاء. إلا أن Marie Breen-Smyth، المؤسسة المشاركة لجماعة تدعو للكشف عن الحقيقة تسمى Healing Through Remembering، تقول إن الرغبة في الكشف عن الحقيقة كاملة قوية بين عديد ممن كانوا الأكثر تضررا جراء الحرب. والإطاحة بالنظام الاستبدادي لا يجعل من السهل دراسة الماضي على الفور. فأحيانا، تظل عناصر من النظام القديم قوية، وتهدد بالعودة. وكان هذا ما حدث في الأرجنتين في الثمانينيات، كما تستذكر Mimi Doretti، المدافعة المخضرمة عن حركة حقوق الإنسان في الدولة، التي كانت الرائدة في استخدام علوم الطب الشرعي للكشف عن مصير أكثر من عشرة آلاف شخص ''اختفوا'' في الأرجنتين. وفي الآونة الأخيرة فقط، بعد ربع قرن من سقوط النظام العسكري، تم جمع حقائق كافية للقيام بمئات الملاحقات القضائية. وحدث نمط مماثل من الكشف التدريجي عن الحقيقة في عديد من دول أمريكا اللاتينية التي خضعت للطغيان.
وفي حالات أخرى، كان الإطاحة بمجموعة من الطغاة يمهد الطريق أمام ظهور حقيقة أخرى يحقق بها الناس معرضين أنفسهم للخطر. ففي رواندا، تم استبدال مرتكبي الإبادة الجماعية لعام 1994 بالجبهة الشعبية الرواندية، ذات السجل غير النظيف. ولكن كان أي مواطن رواندي يشكك في رواية الجبهة الشعبية الرواندية للإبادة الجماعية التي حدثت يعرض نفسه للسجن. وزيمبابوي وأوغندا وإثيوبيا هي أمثلة أخرى على دول إفريقية فرض فيها المتمردون السابقون نسخا جديدة من التاريخ, إلا أن كينيا تبرز هنا كدولة تعتبر فيها المطالبة بقول الحقيقة (مثلا بعد إراقة الدماء عام 2008) قوية.
وأحيانا، لا بد من أن يمر وقت طويل قبل أن تبدأ الحقيقة في الظهور. لكن حتى في الصراعات عميقة الجذور، يساعد مرور السنوات على تشجيع الناس على التشكيك في الروايات الرسمية. خذ قبرص مثلا، الجزيرة التي أدى تقسيمها الفعلي عام 1974 إلى تمكين السلطات اليونانية والتركية القبرصية من فرض قصصهم الخاصة للقتال الذي حدث ذلك العام وفترات الفوضى السابقة. ولمدة لا تقل عن عقدين من الزمن بعد عام 1974، لعب الأشخاص الذين كانوا في عداد المفقودين بعد الغزو التركي في تموز (يوليو) 1974، البالغ عددهم 1619 شخصا، دورا رئيسيا في رواية القبارصة اليونانيين. ورد القبارصة الأتراك على ذلك بالقول إن 809 من شعبهم مفقودين، خاصة بعد إراقة الدماء في الستينيات. وقلل الجانبان من أهمية عمليات القتل التي حدثت في صفوفهم، وألقوا باللوم على ''العدو'' الذي تسبب في فقدان أبنائهم وبناتهم.
ولم تكن أي من الروايتين كاذبة تماما. إلا أن الحقيقة الأكثر دقة بدأت في الظهور نحو عام 1998، حين ذهبت سيدتان من القبارصة اليونانيين إلى مقبرة وهما تحملان معاول وكسرتا الرخام الذي قالوا لهم إن أزواجهن دفنوا تحتها. وحين أوقفتهما الشرطة، أظهرتا الكاميرات: لقد كشفتا الحقيقة القائلة إن الحكومة كانت على علم بمواقع بعض ''المفقودين''، وفي الواقع، كانت تلك المواقع على أراضي يسيطر عليها اليونانيون، وبالتالي كان يمكن الوصول إليها بسهولة.
وساعدت التحقيقات الصحافية من قبل Andreas Paraschos القبرصي اليوناني، وSevgul Uludag القبرصية التركية، على تأكيد أن مواقع عديد من المقابر الجماعية أو الفردية كانت معروفة من قبل السلطات. وتلقت Uludag تهديدات بالقتل من داخل مجتمعها، وتم الاعتداء عليها من قبل أحد القبارصة اليونانيين المتشددين، حيث ساعدت على فضح كيف تمت عمليات القتل من قبل متطرفين يتصرفون وحدهم. وكان تغيير المواقف من قبل الدبلوماسيين القبارصة اليونانيين أحد الأسباب التي أدت إلى بدء جهود مشتركة لاستعادة وتحديد الرفات عام 2004، وتم حتى الآن فحص أكثر من 800. لقد تمت دراسة أوجه التشابه بين قبرص وإسبانيا من قبل عالمين في بلفاست، هما Iosif Kovras وNeophytos Loizides، اللذان يقولان إن كلتا الحالتين تبرزان المفارقة نفسها. فمن ناحية، هناك شعور (معقول في كثير من الأحيان) في الدول التي تتعافي من النزاع (خاصة النزاع الشرس التي يحدث فيها انقسام المجتمعات أو حتى العائلات) بأن فتح الجروح قد يشعل الحرب. إلا أن ''النسيان الانتقائي'' والسلام الذي يترتب عليه لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. فيوما ما، سيبدأ الناس التذكر ويطالبون بمعرفة الحقيقة