هيئة سوق المال وضَالة المؤمن!!
التغيرات العالمية على الساحتين السياسية والاقتصادية كانت بمثابة البداية لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي وتوجيهه وجهة الاقتصاد الحر أو إقتصادات السوق، وقد رافقت هذا التوجه حرية تنقل رؤوس الأموال عبر الحدود الدولية والذي أسهم بشكل وآخر في استفادة بعض البلدان من هذه التدفقات المالية الهائلة، وكان أيضاً سبباً في خلق بؤر توتر في مناطق أخرى. وليس بمُستغرب إن تٌسهم التطورات الحضارية الهائلة في الاتصالات والمعلوماتية في دعم وتطوير الأسواق المالية المحلية والدولية، حيث وُظفت في اقتناص الفُرص الاستثمارية المُتاحة في ظل المنافسة العالمية المحمومة. لا شك أن تأسيس أي سوق مالية في أي دولة هو نتاج طبيعي لحاجة هذا البلد أو ذاك إلى وجود مثل هذه الوسائط المالية المهمة. ومع زيادة التقدم التكنولوجي والمهارات المعرفية ووسائل الاتصال أصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً لوجودها وبكافة تفرعاتها التجارية والتمويلية وعلى نطاق واسع سواء كان خاصاً أم عاماً بل وحتى المالية الدولية، وعلى هذا فلا غرابة في حاجة بلد نام وبحجم الاقتصاد السعودي وإمكاناته المالية والتجارية إلى سوق مالية فاعلة. ولكي تكون السوق المالية على قدر عالٍ من النجاح في بلد من البلدان لا بد من نضج هذا البلد اقتصاديا, فتسريع وتيرة القدرة على المساهمة في التوزيع الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة، وتوافر البيئة القانونية والاقتصادية المناسبة من العوامل التي تساعد على سرعة النضوج الاقتصادي. هناك مستلزمات لا بد من توافرها كي ترتقي السوق درجة على درجات سلم التطور منها, تمتع المصرف المركزي بدرجة مقبولة من القدرة على اتخاذ القرار الاقتصادي المُناسب وبما يخدم الاقتصاد الوطني لأنه سيكون محايداً ومؤثراً بحكم هيمنته على السياسة النقدية, العدد المناسب من المصارف التجارية القادرة على توفير السيولة وأهمية الدور الذي تلعبه في الاستثمار، تحويل الأموال والإمكانات العالية في إدارة الاكتتابات، وكذلك وجود نظام تكنولوجي بنكي متطور يسهم في رفع فاعلية وأداء السوق ما يساعد على نجاحها، ناهيك عن الوعي الاستثماري، بحيث يكون هناك تواؤم ما بين الوعي الاستثماري وتطوير السوق المالية المحلية. لاغرو إن إنشاء الأسواق المالية التي تشمل الأسهم والسندات بأنواعها سواء العامة أو الخاصة، وكذلك صناديق الاستثمار المتنوعة المفتوحة منها والمقفلة، إضافة إلى بعض المعادن الثمينة كالذهب والبلاتين تحقق فوائد كبيرة للاقتصاد الوطني. وليس بجديد القول إن وجود فجوه زمنية ما بين تكوين المُدخرات والاستثمارات يتطلب وجود سوق مالية، كون المدخرات تتراكم خلال فترات زمنية مختلفة بينما قرارات الاستثمار قد لا تتزامن معها، لذا فالسوق المالية تهيئ الفرصة للتوفيق بينها وبين الاستثمار. حقيقة الأمر، عندما تستمع لكلمات من تسنم قمة هرم هيئة سوق المال تشعر بالامتنان للعمل والجهد المبذول من أجل تحقيق الأهداف، وبالنشوة لوجود كوادر وطنية تبذل المستحيل من أجل تهيئة الأرضية والمناخ للمحافظة على السوق الوليدة من شرور التقلبات الاقتصادية التي عصفت بالأسواق المالية العالمية ولعل تجارب عديد من الأسواق الآسيوية وبالأخص تجربة الأسواق المالية المُجاورة ليست بغائبة عن الأذهان. كل هذا لا يُعفي الهيئة من مسؤولية المحافظة على توازن السوق، وإن كان القياس على حجم اقتصاد المملكة وقدرته على استيعاب الطروحات الجديدة بناء على طاقته الاستيعابية الكبيرة، إلا أن هذا التوجه يشوبه عدم التوازن التوعوي الاقتصادي. وبيت القصيد هنا، أن الوعي الاستثماري لا يرقى إلى طموحات سوقنا المالية وعليه فإن التروي بل وحتى الانتظار مطلوب في مثل هذه المرحلة لأن السوق ليست للأسهم فقط، إنما بناء حضاري اقتصادي وطني من خلاله تُطبق السياسات المالية والنقدية الحكومية، وعدم نُضج السوق في الوقت الحاضر يضعنا في موقف حرج من المفهوم النسبي للسوق. والنسبية هي الدخول فقط من أجل العائد المادي السريع دون النظر إلى بناء السوق التمويلية الاستثمارية طويلة الأجل. فالدولة - حفظها الله - وهي تحث الخُطى على طريق التحديث والتطوير تتوقع من السوق المالية استقامة وتكامل أجنحتها ومن ثم التحليق عاليا، والمساعدة على تهيئة المكان والزمان للمدخرات اللازمة لتحقيق التنمية في القطاعات الإنتاجية ذات الأهمية الوطنية كونها ستُعنى بالإنتاج والتوظيف وهي محط الأنظار. وفي هذه الحالة ستُساعد السوق المالية بتعريفها ووظائفها الواسعة على خلق كيانات إنتاجية مستقبلية تساعد على تحقيق طموحاتنا التنموية، وهذا لن يتحقق طالما أن مناهجنا التعليمية للمراحل الأولية لا تشتمل على ما يُوسع مدارك أبنائنا وبناتنا وتفكيرهم وغرس مفاهيم الادخار والاستثمار في أذهانهم وتقريب بعض المفاهيم الوطنية لها من خلال تشجيعهم على القيام بدورهم كعامل مهم من عوامل تحقيق التنمية، ويتم هذا من خلال التعاون البناء ما بين هيئة سوق المال ووزارة التربية والتعليم في هذا الجانب لما له من أثر إيجابي في مستقبل الوطن. بيد أن الاستفادة من تجارب الأسواق المالية العالمية من ناحية سن القوانين والأنظمة التطويرية التي تساعد على ارتفاع درجة الشفافية لسوقنا المالية لا تُلغي حقنا في وضع العربة على الحصان ومن ثم ضبط إيقاع السوق وليس الإيقاع به.