بروناي: التمويل الإسلامي ينمو وسط إقبال نحو الاستثمارات الأخلاقية
لا تتبدى بروناي بسهولة وسط "غابات" الخرائط الجغرافية وحدود الدول الكبيرة الممتدة على مياه المحيط الهادي، هي دولة صغيرة ليست بحجم دول الجنوب الشرقي لآسيا حيث تقع بينها، لكنها في الوقت نفسه كبيرة بحجمها الاقتصادي وثقلها المالي.
حتى مطلع العقد الثامن من القرن الماضي لم تكن بروناي تذكر إلا في سياق الدول المستعمرة الواقعة تحت الاحتلال البريطاني، ومع ذلك فقد كانت كميات النفط التي بدأت تتدفق من مناطقها السياحية كافية لتلفت إليها الأنظار، اليوم ثمة ما يدعو الجميع إلى مزيد من الالتفات، وذلك مع التقدم الكبير الذي تشهده السلطنة الصغيرة في صناعة المال الإسلامية.
في دراسة كتبها الدكتور عبد القادر شاشي نكتشف مدى التطور الكبير الذي يشهده قطاع خدمات التمويل الإسلامي في بروناي دار السلام ــ وهذا اسمها الرسمي ــ وهو تطور أدى إلى جذب نسبة كبيرة من الناس في السلطنة إلى القطاع وأدى كذلك إلى اهتمام غير مسبوق بترسيخ مفهوم الصناعة، وهذا ما نستنتجه من قائمة المؤتمرات وورش العمل التي تعلنها المؤسسات المالية هناك بين الفينة والأخرى.
واقع المنطقة وحالة السلطنة
لا يمكن الحديث عن حالة بروناي في هذا الخصوص دون إلقاء نظرة على تفاصيل مشهد الصناعة في منطقة شرق آسيا، حيث تتبدى السلطنة صغيرة في هذا القطاع الذي ينمو بصورة كبيرة، فبالرغم من أن المصرفية الإسلامية في جنوب شرق آسيا ما زالت تعتبر ناشئة، وفي طور بداياتها الأولى ــ هذا بالطبع إذا استثنينا ماليزيا ــ فإن اهتمام الدول الآسيوية مثل تايلاند والفلبين وسنغافورة وإندونيسيا تعتبر إلى حد ما كبيرة، إذا ما تمت مقارنتها ببروناي، وهذا ما يثير سؤالاً مهماً يبدو من واقع المشهد الذي يفسر هذا الاهتمام في سياق التنافس بين دول المنطقة للاستئثار ببعض فوائد هذا القطاع .. فهل هذا صحيح؟
ففي الوقت الذي تهيمن فيه الصيرفة التقليدية على هذه الدول وتوقع البعض باستمرارها، فإن مراكزها المالية الرئيسة تعمل على تطوير شرائح الصيرفة الإسلامية وتسهل في الوقت نفسه تدفق رؤوس أموال الصناديق الإسلامية، وهو ما يعكس رغبة هذه الدول في الاستفادة من هذه السوق الكبيرة ويعزز من حقيقة تصيد التدفقات الدولية وإدارة الأصول الإسلامية والأعمال التجارية في أسواق رأس المال من وضعها كمراكز مالية، وهذا ما يمكن ملاحظته حينما نتابع الأسواق المالية في كل من: بروناي، إندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، وتايلاند، التي تزداد فيها كل يوم المساحة التي تحتلها هذه الأسواق، وفي الوقت نفسه يكشف عن رغبة هذه الدول في توفير الخدمات المصرفية الإسلامية، وهي دلالة على مدى تنافس هذه الدول في الاستئثار بأكبر قدر من الصناعة، وهكذا يمكن القول إن التقدم الذي تشهده بروناي يقع ضمن السباق الذي يحدث في المنطقة.
الدور الأهم
وفقاً للدراسة المذكورة آنفاً فإن النظام المالي في بروناي دار السلام ينقسم إلى قسمين هما المؤسسات المالية المصرفية والمؤسسات المالية غير المصرفية، ولأنه لا يوجد بنك مركزي في بروناي فإن شعبة المؤسسات المالية FID التابعة لوزارة المالية في حكومة دار السلام هي الجهة المسؤولة عن إصدار التراخيص وإدارة ضوابط شركات خدمات التمويل الإسلامي في السلطنة، وبشكل عام تملك بروناي ثلاثة مصارف إسلامية هي تابونغ أمانة إسلام بروناي والبنك الإسلامي لبروناي وبنك التنمية الإسلامي بيرهاد، إضافة إلى ثمانية مصارف تقليدية. وتلعب هذه المصارف الإسلامية الثلاثة، إضافة إلى مؤسسات التكافل دوراً مهماً في الاقتصاد، لأنها ــ وفقاً للدراسة ــ تمثل جزءا جوهريا من القطاع المالي، ويجعل في الوقت نفسه من الأهمية بمكان لعملاء البنوك هناك أن يثقوا بكل من هذين القطاعين؛ المصارف الإسلامية ومؤسسات التكافل.
#2#
ومن المهم القول هنا في هذا السياق إن المؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية في بروناي تلعب دوراً مهماً في الاقتصاد، ولا سيما أنها توفر قاعدة للتوسط في عملية النظام المالي، الذي تصفه الدراسة بأنه يفتقر إلى ضوابط قوية من شأنها حماية الاقتصاد من أي آثار كارثية، وذلك في حال حدوث أي اختلالات، وتشير الدراسة في هذا الإطار إلى ما حدث في عامي 1997 و1998، حيث قادت الأزمات الداخلية والخارجية في السلطنة إلى تقلص اقتصادها، وذلك قبل أن يتعافي بعد سنتين. ومرة أخرى تشير الدراسة إلى أن العامل الرئيس في كل ذلك هو وجود ضوابط ضعيفة للنظام المالي.
نجاح خدمات التمويل الإسلامي
على الرغم من هذه الأزمات يظل قطاع خدمات التمويل الإسلامي لبروناي دار السلام متطوراً جدا،ً وقد نجح في جذب نسبة جيدة من المودعين والمستثمرين خلال السنوات الماضية، فهو يعمل وفقاً لصيغ وضوابط مختلفة عن تلك التي توجد في المصرفية التقليدية. وتخضع مؤسسات التمويل الإسلامي هناك لهيئة علماء شرعيين تسمى مجلس الإشراف الشرعي SSB، حيث تقوم بضبط هذه المؤسسات بواسطة قوانين الشريعة الإسلامية وتوفر بهذا قاعدةً لتخصيص موارد هذا القطاع لكل من الإدارة والإنتاج والاستهلاك ونشاطات أسواق المال وتوزيع العائد والثروة.
#3#
ووفقاً للدراسة فإن الضوابط المشتركة لممارسات صناعة خدمات التمويل الإسلامي في بروناي دار السلام قد وفرت نوعاً من الثقة لدى العملاء، ما ساعد علaى انجذابهم للقطاع، كما أن الهيئات الإشرافية الشرعية تعد إضافات قيمةً للمجالس الإدارية ولضوابط الشركات في بناء مؤسسات مالية إسلامية متسقة مع الضوابط الشرعية.
التطوير لمزيد من التوسع
من ناحية أخرى تكشف الأرقام والمعلومات المحدودة عن النظام المصرفي في بروناي مدى نجاح تجربة الصناعة المالية الإسلامية هناك، خاصة أنها تأخذ ما يفوق 11.5 في المائة من حصة السوق وهي نسبة معتبرة في هذا البلد، وعلى أية حال، ووفقاً لهذه المعلومات فإن هناك مزيداً من التحدي للصناعة المالية الإسلامية التي تواجه تنافساً شرساً من البنوك التقليدية، وفي هذا السياق توصي دراسة حديثة المصارف الإسلامية في بروناي بالعمل على تطوير أنفسها، حيث تحدد الدراسة جملة من التوجيهات لهذه البنوك من الممكن أن تعمل على انتشارها، وذلك بالعمل على دعم بنوك التجزئة بشكل تدريجي بالمشاركة مع البنوك الاستثمارية، وبناء شبكة من الصلات الحيوية بين المؤسسات المحلية والأجنبية، كما دعت الدراسة إلى بذل مزيد من الجهد واستخدام الهندسة المالية لتوليد وتصميم منتجات وقروض مثالية من شأنها تشجيع المستهلكين وتأمين المخاطر أي تخفيضها. وأكدت الدراسة قدرة النظام المالي الإسلامي في بروناي الكفء ــ كما وصفته ــ تخصيص مصادر مالية كبيرة لخلق ثروة كبيرة، وهذا من شأنه ــ كما وصفت الدراسة ــ المساعدة في تحفيز النمو الاقتصادي ليس لبروناي فقط، بل لاقتصادات المنطقة التي تعصف بها رياح الأزمة المالية العالمية.
في واجهة المشهد
هذا الواقع الجديد للمشهد الاقتصادي في بروناي والاندفاع نحو الصناعة المالية الإسلامية دفع المهتمين إلى مزيد من العمل على ترسيخ مفهوم الصناعة والاهتمام بالدور التوعوي والإعلامي، وهو ما يتبدى في عقدها جملة من الملتقيات والمؤتمرات والندوات الدورية التي تحاول من خلاله متابعة أبرز التطورات في قطاع الصناعة واستكشاف أهم الفرص، ويبرز في هذا الإطار الملتقى السنوي الذي تعقده السلطنة ويهدف إلى استكشاف أبرز تطورات التمويل الإسلامي وأخباره، وذلك بمشاركة نخبة من الخبراء والمتخصصين وعدد من الوجوه المعروفة في قطاع الصناعة في منطقة جنوب شرق آسيا والعالم، وهو ملتقى يعمل مع غيره من الفعاليات المماثلة على دراسة التطورات المهمة في التمويل الإسلامي في بروناي وتقييم كيفية توافق وتباين التطبيقات المحلية مع المراكز الإقليمية الأخرى، وتقييم تطور المنتجات المالية الإسلامية في المنطقة واكتشاف احتمالات التطور فيها ومناقشة جديد الصكوك وأسواق المالية الإسلامية، إضافة إلى التعرف على الاهتمامات الرئيسة للمستثمرين لأسواق المال الإسلامية، ودراسة توجهات السوق والتحديات والفرص لأسواق المال الإسلامية، والهدف في النهاية هو تشجيع المستثمرين على دخول سوق السلطنة.
واقع المرحلة واندفاع الحكومة
وهو تشجيع يأتي من الجهات الرسمية أيضاً على ما يبدو، إذ بدأت تستشعر ملامح المرحلة المقبلة، حيث بدأ النضوب المتسارع للنفط، ففي عام 1929م، أدّى اكتشاف النفط في حقول مغمورة بعيداً عن الساحل إلى أن تصبح بروناي دولة غنية، وفي عام 1984م أصبحت بروناي دولة مستقلة تقع ضمن منظومة الدول الإسلامية وقد درّ عليها النفط والغاز الطبيعيّ الموجودان تحت سطح الماء في المناطق الساحلية عائداً كبيراً، إذ يمثل النفط ومنتجاته والغاز الطبيعي الموجود مع النفط، كل صادرات بروناي تقريبا،ً حيث تستوعب هاتان الصناعتان نحو 10 في المئة فقط من القوى العاملة في البلاد، في حين يعمل 50 في المئة في دواوين الحكومة وهي أكبر مستخدم تقريبا لهذه القوى العاملة، وعلى الرغم من ازدهارها الاقتصادي هذا فإن بروناي اليوم في حاجة إلى أن تبني أنشطة اقتصادية أخرى قبل أن ينفد النفط من أراضيها، وهذا ما يفسر وفقاً للبعض اندفاع الحكومة وتشجيعها بإنشاء وظائف كثيرة في الأعمال أو المشروعات التجارية الخاصة وفي مجال الزراعة والسياحة واستثمار عائدات النفط والغاز الطبيعي وخاصة في قطاع التمويل الإسلامي الآمن، وقد يفيدها في ذلك موقع السلطنة في قلب جنوب شرق آسيا، الذي يساعدها على لعب دور مهم في حركة تطور وتنمية المنطقة التي تعتبر من أكثر مناطق العالم تسارعاً في النمو الاقتصادي والاهتمام بالصناعة المالية الإسلامية.
الدِين والثقة محركان للانجذاب
وما يساعد على هذا الاتجاه، ازدياد ثقة الناس والمستثمرين يوما بعد يوم بالمصرفية الإسلامية في بروناي، التي تتوجه بشكل جدي إلى طرح المنتجات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، ونذكر هنا على سبيل المثال، أن أول صكوك إسلامية وهي صكوكك الإجارة طرحتها الحكومة في شهر يناير عام 2006.
وفي قطاع التأمين شهد قطاع التكافل أي التأمين الإسلامي إقبالا كبيراً خلال السنوات الماضية في مقابل التأمين التقليدي، وقد نجحت الشركات الثلاث الكبرى في هذا القطاع داخل بروناي في طرح مجموعة واسعة من منتجات التأمين المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، ونذكر هنا على سبيل المثال أيضا،ً تمكن سوق المنتجات الإسلامية الخاصة بالتأمين من الاستحواذ على نحو 63 في المئة من سوق تأمين السيارات.
ولعل اندفاع الناس وانجذابهم نحو المنتجات الإسلامية بشكل عام ناتج من مستوى الأمان الذي توفره هذه المنتجات وتوافقها مع الشريعة الإسلامية، وهذا ما يمكن فهمه من التركيبة السكانية للسلطنة التي يغلب عليها الإسلام، حيث يشكل المسلمون ثلثا عدد السكان الذي يقدر بنحو 340,000 نسمة وفقاً لتقديرات عام 2002م.
ومن المهم القول هنا إن سكان بروناي يتمتعون بمستوى معيشي رفيع، حيث تتكفل الحكومة بالتعليم المجانيّ والعِلاج المجاني لمواطنيها، وهم يتمتعون بأعلى مستوى من حيث دخل الفرد في العالم، كما تقل فيها نسبة البطالة بشكل كبير.
وتعد بروناي التي وصلها الإسلام عن طريق الدعاة في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) دولة إسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة كما جاء في دستورها، ونظام الحكم يخضع للقيم والتقاليد الإسلامية وتوصف الحكومة بالملايوية الإسلامية الملكية، ويشكل الإسلام محوراً مركزياً في حياة الناس، ويتبدى ذلك في المظاهر الحياتية اليومية، حيث يحرص الجميع على أداء شعائر الدين الإسلامي وارتداء النساء والفتيات الحجاب، وعدم مصافحة الرجال النساء من غير محارمهم والعكس.