بحثا عن سياسة ابتكار فعالة لتصحيح المفاهيم
أصبح الابتكار في كل مكان كلمة طنانة: في النشرات الأكاديمية، ووسائل الإعلام الشعبية، والمواد الترويجية للشركات، والاستراتيجيات الحكومية. وقد توسع استخدام هذه الكلمة بشكل سريع من كونها اسماً إلى عدة وسائل للتحويل. وهكذا، لم نعد نتحدث اليوم فقط عن أهمية الابتكار بالنسبة للمجتمعات، بل غالبا عن أهمية الأنواع المحددة من الابتكار أيضا، مثل الابتكار الأخضر، والابتكار الاجتماعي، والابتكار المفتوح. لقد توسع مصطلح الابتكار بشكل أسي مع تناظرات متنوعة تتراوح من ممرات الابتكار، والتكتلات، والأعمدة، والوديان، إلى الابتكارات «التمزيقية»، و»المتطرفة» و»التدريجية».
ليس من المستغرب إذن أن يجد صنّاع السياسة أنفسهم في متاهة من مصطلحات دراسات الابتكار. فقد أنتج الأكاديميون والباحثون نوعاً جديداً من المؤلفات التي يصعب استخدامها من أجل ابتكار حلول (سياسة) فعالة. وفي الواقع، لا يجد الكثير من تحليلات السياسة العامة المعيارية طريقه إلى سياسة الابتكار، وبالتالي، لا يتم في الكثير من الأحيان وضع الجدوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية للعديد من التوصيات بعين الاعتبار.
أحد أسباب ذلك هو ميل الكثير من محللي سياسة الابتكار إلى التركيز بشكل أساسي على الصورة الكبيرة، مثل الهياكل الصناعية للأمم، وثقافة شركاتها، وأنظمة التعليم، والأطر التشريعية. ونتيجة لذلك، غالبا ما يتم تقديم توصيات للحكومة تتطلب إحداث بعض التغيرات الاقتصادية الاجتماعية الكبيرة، التي تتراوح من دعوات إصلاح أنظمة التعليم القائمة إلى دعوات جعل هياكل الحكم مركزية (أو لامركزية). وفي الكثير من الأحيان، لا يلاحظ أحد قابلية تطويع ومخاطر وتكاليف مثل هذه التوصيات، ويصبح صنّاع السياسة إما متشككين أو رافضين لصحة العديد من مثل هذه الدعوات.
من الصعب غالبا تنفيذ التغييرات الهيكلية والثقافية العميقة
تهتم الحكومة في المقام الأول بالتدخلات التي يمكن أن تجعل النظام يعمل على نحو أفضل، بدلا من تلك التي تهدف إلى إصلاح النظام تماما. وبالنسبة للأغلبية، فإن سياسات إعادة التنظيم الاجتماعية الاقتصادية كبيرة جدا بحيث يصعب تنفيذها، وليس هناك ضمانات في أنها ستحقق من الناحية العملية ما تعد به نظريا.
وقد ظهرت بالفعل على مر التاريخ قصص نجاح على خلفية خطط إعادة التنظيم الاقتصادي الاجتماعي مثل سياسات التنظيم الصناعي الأوروبي في فترة ما بعد الحرب، وتكتلات الشركات الكورية، أو شبكات الأعمال المترابطة اليابانية، إلا أن الظروف التاريخية الاستثنائية، مثل الحرب العالمية الثانية، والحرب البادرة، وخطة مارشال، هي التي مكّنت من نشوء مثل هذه السياسات والتكتلات. كما استغرق تحقيق النتائج عقوداً عديدة.
ونادرا ما يتم تحقيق تغييرات هيكلية وثقافية عميقة داخل المنطقة خلال مدة ولاية واحدة أو اثنتين للحكومة، وبالتالي تقل احتمالات تبنيها من قبل صنّاع السياسة. وحتى في يومنا هذا، حين قد يفترض المرء أن الأزمة الاقتصادية العالمية قد تؤدي إلى إعادة التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ليس هناك حتى الآن دلائل تشير إلى شروع الحكومات بمثل هذه التغييرات. وفشل محادثات COP15 حول المناخ في كوبنهاجن في الآونة الأخيرة هو برهان على عدم استعداد الحكومات لإحداث تغير اقتصادي اجتماعي كبير. وبدلا من ذلك، اختارت معظم الحكومات محاولة «معالجة» الأنظمة القائمة بدلا من إصلاحها كليا.
المسافة بين الحكومة والشركات تخفي عديدh من أسرار النجاح والفشل
غالبا ما تتعايش قصص النجاح والفشل الفردية في إطار الصورة الكبيرة نفسها (مثل الاقتصاد الوطني) ويجب على محللي السياسة فهم كيف ولماذا يتعايش النجاح والفشل في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية نفسها.
وتأتي قصص نجاح شركات مثل جوجل وأبل وتاتا ونوكيا وزارا وسكايب وسوبارو من أماكن يلتقي فيها النجاح والفشل. وفي كل دولة ومنطقة، هناك العديد من قصص الفشل مقابل كل قصة نجاح ابتكاري. وبالمثل، يوجد النجاح بين حالات الفشل. ولا يبدو أن الأمور المرتبطة بالفشل، مثل الروتين الحكومي وعدم وجود تمويل للبذور ونقص المهارات، تتسبب بفشل جميع الشركات، حتى وإن كانت هذه الشركات تعمل في الصناعات نفسها والمواقع نفسها. لذا لا بد أن هناك بعض عوامل النجاح والفشل المهمة على المستويات المتوسطة والصغيرة من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية.
ومع ذلك، في حين أن هناك تاريخاً طويلاً من دراسة عوامل النجاح والفشل على المستوى الصغير (أي على مستوى الشركة)، ليس هناك دراسات كافية عن المستوى المتوسط، الكامن بين المستوى الكبير والصغير. والمستوى المتوسط هو الحيز الذي تشغله الوكالات الوسيطة التي تدير وتقدم السياسات العامة، فضلا عن المنظمات التي تدير العلاقات مع الحكومات. وهذا الحيز مهم، لأنه الحيز الذي يحدث فيه التفاعل بين السياسة العامة والمؤسسات الخاصة، والذي يمكن فيه ملاحظة النجاح والفشل على نحو أفضل. وإذا أراد محللو الصناعة إحداث التغيير، عليهم إيلاء المزيد من الاهتمام لهذا الحيز، لأن أدوات التغيير تكمن فيه.
نحو سياسة ابتكار فعالة
كيف يمكن للحكومات إذن إيجاد ظروف مواتية لتحقيق الابتكار؟ للإجابة على هذا السؤال، أطلقت العديد من الحكومات في الاقتصادات المتقدمة الكبرى استراتيجيات ابتكار وطنية خلال السنوات القليلة الماضية. وسيشهد صيف 2010 أيضا إطلاق استراتيجية الابتكار الخاصة بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وللأسف، غالبا ما تظهر تلك الاستراتيجيات على شكل قوائم طويلة من المهمات الصعبة. ولا يتنبه أحد في الكثير من الأحيان للحاجة الملحة إلى تحديد أولويات المشاكل والحلول في مواجهة الندرة والمنافسة على الموارد. وبالتالي، يميل صنّاع السياسة غالبا إلى التعامل مع وثائق الاستراتيجيات هذه، في أحسن الأحوال، باعتبارها قوائم تمني يمكن اختيار أفضلها فقط، وفي أسوأ الأحوال، باعتبارها مواد للعلاقات العامة.
وبالتالي، فإن سياسة الابتكار الفعالة هي سياسة ينبغي أن تشمل على الأقل بعضاً مما يلي:
أولا، يجب أن تركز بصورة أكبر على الأمور الملحة وبصورة أقل على الأمور المرغوبة. بعبارة أخرى، يجب زيادة التركيز على إزالة الحواجز بدلا من وضع الأهداف والمعالم. ولم تكن قصة نجاح وادي السيليكون مستوحاة من خطة اقتصادية اجتماعية مصممة من قبل الحكومة، بل من ثقافة قوية من روح المبادرة المدفوعة بالهجرة والطلاب الأجانب ورأس المال المغامر. وفي الواقع، قد يقول البعض إن شركات وادي السيليكون نجحت على الرغم من، وليس بسبب، الحكومة.
ثانيا، يجب أن تكون قائمة بشكل أكبر على الأشياء المتاحة وبصورة أقل على الأشياء غير الموجودة. فغالبا ما تتجاهل توصيات سياسة الابتكار أو تقلل من أهمية الإمكانات القائمة وتبالغ في قيمة الأشياء المفقودة. على سبيل المثال، إذا كانت العائلة والأصدقاء مصدراً مهماً لتمويل المشاريع الجديدة في منطقة يكون فيها رأس مال البذور نادرا، قد يكون إدخال الحوافز (الضريبية) لحث المزيد من الأصدقاء والعائلات على الاستثمار في مثل هذه المشاريع أداة أكثر فعالية للسياسة من اقتراح إنشاء صندوق حكومي. فهذا مثال على سياسة قائمة على ما هو موجود، بدلا من ما هو مفقود.
ثالثا، يجب أن تعترف سياسة الابتكار أن دور الحكومة قد يكون حاسما دون أن يكون جذريا بالضرورة، وبالتالي منح الأولوية للتحسين، بدلا من إصلاح الأنظمة القائمة. وقد يكون إدخال تعديلات على أنظمة التعليم القائمة وقنوات التمويل ومؤسسات التوزيع العامة مهمة أسهل من إنشاء نسخة جديدة من أي شيء ناجح في دول أخرى. ولعل دول الشمال تقدم نماذج ممتازة في هذا المجال، حيث تم تحسين الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية لتصبح أكثر تنافسية واستدامة، دون التخلي عن الركائز الأساسية لأنظمتها الاقتصادية والاجتماعية.
ولوضع سياسة ابتكار أكثر فعالية، من المهم فهم العوامل المؤدية للنجاح والفشل في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية القائمة، ثم استكشاف وتحديد التدخلات الأكثر قابلية للتطويع التي يمكن تنفيذها على النظام لزيادة معدل النجاح وتقليل معدل الفشل. وأخيرا، يجب أن تكون عملية وليس أيدولوجية، وبالتالي ليس من الضروري أن تكون عالمية وصالحة لجميع اللاعبين والأماكن في كل الأوقات.
د. سامي محروم مدير مبادرة السياسة والابتكار لانسياد في أبو ظبي.