المصرفية الإسلامية: رؤية استشرافية
إلى عهد قريب وبعض صناع القرار في المؤسسات المالية التقليدية والمؤسسات الرقابية لا يزال يشكك في إمكانية نجاح المصرفية الإسلامية وقدرتها على الصمود في مواجهة المصرفية التقليدية، إذ إنهم يعزون ظهور هذه المؤسسات الوليدة إلى حماس ممن ليس لديهم الدراية والخبرة الكافية بقواعد النظام المصرفي وأساليب عمله. وهذا سيقود حتماً إلى الاصطدام بهذا الواقع ويعوق نموها، لكن المتتبع لمسيرة المصرفية الإسلامية يلاحظ أن الأمور سارت في اتجاه مغاير لهذه التوقعات، إذ إنه خلال ثلاثة عقود من الزمن ارتفع عددها من مصرف واحد في منتصف 1975م إلى نحو 280 مؤسسة مالية إسلامية في نهاية 2005م. كما وصلت أصولها إلى نحو 250 مليار دولار والأموال المدارة إلى 300 مليار دولار. ووصل عدد مؤسسات الدعم إلى عشر مؤسسات تقريبا، بما في ذلك هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية والسوق المالية الإسلامية والمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية وهيئة التصنيف للبنوك الإسلامية ومركز إدارة السيولة ومجلس الخدمات المالية الإسلامي. والشيء اللافت للانتباه أيضاً أن هذا النظام قد حقق خلال السنتين الماضيتين إنجازات غير عادية على مستوى النظام المصرفي ككل، إذ إن جميع البنوك الجديدة التي أنشئت في دول مجلس التعاون هي بنوك إسلامية، فقد وصل عددها إلى أكثر من عشرة بنوك جديدة، برأسمال مكتتب فيه وصل إلى أكثر من 12 مليار دولار أمريكي.في أعلا القائمة بنك الإنماء في المملكة (أربعة مليارات دولار)، الدولي المتحد في البحرين (ثلاثة مليارات دولار)، الريان في قطر (مليارا دولار)، وأعلن أخيراً عن قيام بنك الإعمار في البحرين (مليارا دولار)، إضافة إلى ذلك فقد تقدم بنك (المصرف) بطلب ترخيص لإنشاء بنك في البحرين برأسمال قدرة عشرة مليارات دولار.
وفي الفترة نفسها لجأ عدد من البنوك القائمة إلى زيادة رؤوس أموالها فعلى سبيل المثال "البركة" زادت رأسمالها بنحو مليار دولار و"آر كابيتا" في البحرين بـ 400 مليون دولار. هذا ناهيك عن البنوك التقليدية التي بدأت تتحول إلى إسلامية أو تتوسع في تقديم المنتجات الإسلامية، فقد تحولت حتى الآن خمسة بنوك في المنطقة، اثنان في الإمارات، اثنان في الكويت، وواحد في المملكة. كما أن جميع البنوك السعودية بدون استثناء تقدم منتجات إسلامية وكثير من البنوك التقليدية في الدول الأخرى بما فيها الدول الغربية.
ويمكن أن نعزو ازدهار هذا القطاع إلى سببين رئيسيين:
1. تزايد الطلب من بعض شرائح المجتمع وخاصة قطاع الأفراد مما دفع البنوك للتنافس في استحواذ هذه الشرائح وتوفير المنتجات والخدمات المطلوبة. وقد أدى هذا التطوير والاهتمام في البنوك إلى استقطاب شرائح أخرى ولا سيما في قطاع الشركات الكبيرة، التي اختارت التعامل التدريجي مع هذه المنتجات وبما يحقق الانسجام الداخلي للعاملين فيها بين المتطلبات المادية والروحية.
2. أسباب مالية واقتصادية، منها ما ترتب على أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وعودة بعض رؤوس الأموال الوطنية وتردد البعض الآخر في الولوج مرة أخرى إلى الأسواق الغربية، إضافة إلى ارتفاع عائدات النفط والإصلاحات الاقتصادية التي تعيشها اقتصادات المنطقة.
ويستدعي الحديث عن السبب الثاني الإشارة إلى ورقة كنت قد قدمتها في "ندوة إدارة المخاطر في الخدمات المصرفية الإسلامية"، التي عقدت في المعهد المصرفي لمؤسسة النقد العربي السعودي خلال الفترة 4 - 5 المحرم 1425هـ، فقد أشارت الورقة حينئذ إلى أن من أهم المعوقات التي تحد من نمو المصرفية الإسلامية وقدرتها على مواجهة التحديات المستقبلية بما فيها المنافسة الوافدة.. التالي:
1. صغر حجم هذه المؤسسات، حيث إن هناك علاقة وثيقة بين حجم المصرف (مقاساً برأسماله وإجمالي أصولة) ومستوى كفاءته التشغيلية. وتعتبر العلاقة بينهما طردية إلى مستوى معين كلما اقترب المصرف منه ارتفعت كفاءته التشغيلية وتحسنت نتائجه المالية، وذلك لما يجنيه من "وفورات الحجم" وارتفاع في قدراته على الاستثمار في الموارد البشرية وتقنية المعلومات. باعتبار هذين العنصرين الأخيرين يكوِنان مع بعض العمود الفقري لرفع مستوى الأداء والإنتاجية.
2. الدعم الحكومي ممثلاً بالدرجة الأولى في أجهزة الإشراف والرقابة المصرفية. بحيث تخضع هذه المؤسسات لنظام رقابي وإشرافي يناسب طبيعة عملها واحتياجاتها وبما يضمن لها العمل في ظروف متساوية مع غيرها من المصروفات التقليدية.
ولعل ما نشهده اليوم هو انفراج لتلك المعوقات، فرؤوس أموال عدد من البنوك الجديدة أصبح يقاس بالمليارات بدلاً من عشرات الملايين، أما الدعم الحكومي فقد أخذ منحى إيجابياً في معظم دول المجلس، ففي المملكة مثلاً يمكن ملاحظته من خلال التراخيص التي منحت للبنوك الجديدة كبنك البلاد وبنك الإنماء، والمشاركة الفاعلة لمؤسسة النقد في عضوية مؤسسات دعم المصارف الإسلامية كمجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا والذي يضم في عضويته إضافة إلى عدد من البنوك المركزية، البنك الإسلامي للتنمية وصندوق النقد الدولي، حيث إن من أهم أهداف هذا المجلس تطوير وتوحيد معايير الإشراف والرقابة على المصرفية الإسلامية، إضافة إلى ذلك فقد تبنى المعهد المصرفي للمؤسسة برنامجاً تدريبياً للعمل المصرفي أخذ في تقديمه منذ عدة سنوات كما أخذ على عاتقه عقد بعض الندوات ذات العلاقة.
وأخيراً وبعد هذا الاستعراض السريع لمسيرة المصرفية الإسلامية أود التأكيد على النقطتين التاليتين:
1. إن المصرفية الإسلامية لم تعد فقط حقيقة يصعب تجاهلها في الدول الإسلامية، بل وستستمر في النمو لتحتل مكاناً متقدماً على المصرفية التقليدية.
2. مصداقية وبعد نظر الرواد الأوائل للمصرفية الإسلامية أمثال الشيخ سعيد لوتاه ومحمد عبد الله العربي وعيسى عبده والشيخ أحمد بزيع الياسين والدكتور أحمد النجار والأمير محمد الفيصل آل سعود والشيح صالح كامل والدكتور نجاة الله صديقي وغيرهم، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.
والله من وراء القصد.