النضج لا يحسب بالسنوات
اعتاد العالم قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، أن تكون القوى الكبرى التقليدية، بمثابة أمثلة تحتذى، في الحراك الاقتصادي، وتحولت هذه القوى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى جهات "مقدسة" عند كثير من البلدان، وعند "المُلهمين" الاقتصاديين، على اعتبار أنها تتمتع بنضج سياسي واقتصادي وعمق تاريخي، يكفل لها تجنب الوقوع في الأزمات، وإن حدث ووقعت، يوفر لها مساحة للخروج منها بأقل الخسائر. لكن بعد اندلاع الأزمة، بدت قوة هذه القوى، كجبال من ورق غير مُوقى. وماذا حدث بعد انفجار الأزمة؟ تبدلت المفاهيم التقليدية، وأُفسح المجال أمام القوى الصاعدة، التي تحلت بحكمة كانت غائبة عن القوى التقليدية، وأظهرت نضجاً، كان حتى وقت قريب حكراً على غيرها. فلم تقع في الفوضى الاقتصادية التي كانت بمثابة إحدى مقدمات الأزمة العالمية، ولم تكن تدير حركة الاقتصاد، وهمياً أو ورقياً أو فقاعياً، أو على مبدأ رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق (المصرف المركزي) ألان جرينسبان "بترك السوق المالية تعمل، وإن أخطأت فإنها قادرة على تصحيح أخطائها بنفسها".
كانت المملكة العربية السعودية الدولة الصاعدة الأكثر ثباتاً في مواجهة الأزمة، والأكثر تماسكاً في التعاطي مع تداعياتها، والأكثر احتواء لضرباتها. وقد أثبتت من خلال ذلك، أن النضج لا يُحسب بالسنوات، ولا بالقِدم، بل بالحكمة والواقعية والتعلم من التجارب، ولا سيما القاسية منها. وفي الوقت الذي كانت فيه دول (قيل إنها لا تقهر)، ترتعد فرائصها من غول وهول الأزمة، كانت المملكة تتعاطى مع الأزمة (التي لم ترتكبها، لكن تبعاتها وقعت عليها وعلى العالم أجمع)، بهدوء لا اضطراب فيه، وبآليات لا وهْم فيها، وبمعطيات بلا مبالغات فيها. وعندما يصل صندوق النقد الدولي، إلى حقيقة أن المملكة كانت مهيأة لمواجهة الأزمة المالية (الاقتصادية)، في الوقت الذي يعمل فيه هذا الصندوق على إنقاذ دول برمتها من الانهيار، فإنه يوجه اللوم ـــ بصورة غير مباشرة ـــ إلى الدول التي كان من المفترض، ألا تكون أقل من المملكة في مواجهة الأزمة، وفي الاستعداد لها. وفي الوقت الذي غاب عن القوى التقليدية التعلم من أزمات عالمية ومحلية هائلة سابقة، مثل الكسادين الطويل والعظيم، وأزمة الـ "دوت كوم"، وأزمة الأسواق الآسيوية، وغيرها من الأزمات، استطاعت المملكة، أن تتعلم من تجربتها عندما واجه القطاع المالي فيها أزمة كبيرة، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بسبب انهيار أسعار النفط.
أزمة منتصف الثمانينيات، كفلت للمملكة العزوف عن اتباع سياسة "الفقاعات الاقتصادية" التي عمت العالم في العقدين الماضيين، من خلال اتباع سياسة "الحذر المالي"، وهي سياسة لم تكن موجودة في "أدبيات" اقتصادات القوى الكبرى، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في العقود الثلاثة الماضية. وبينما كانت البنوك المركزية (المستقلة وغير المستقلة) في الدول الكبرى، تعمل من أجل حماية "الأسواق المنفلتة"، في السنوات الماضية، كانت مؤسسة النقد العربي السعودي، تعمل في إطار ما هو موجود .. لا ما هو وهمي، الأمر الذي عزز قوة ومتانة القطاع المصرفي السعودي قبل الأزمة وبعدها. وتكفي الإشارة إلى أنه في عز الأزمة العالمية، تقوم المملكة، بتنفيذ خطتها التنموية التاسعة، وتقوم في الوقت نفسه، بتحصين القطاع المصرفي من أي أزمات قد يواجهها، سواء أكانت مسبباتها خارجية أم داخلية. إن الرصانة في التعاطي مع الحراك الاقتصادي، والمؤثرات التي قد تُخضِعه لها، تكفل للمملكة مزيدا من الحصانة الاقتصادية، وكثيرا من الواقعية المطلوبة، التي لولا غيابها عن "المسرح" الاقتصادي العالمي، لما وجد العالم نفسه في مواجهة أزمة، بدت أمامها كل الأزمات السابقة، كـ "جولات سياحية" جميلة!