التسرب النفطي في خليج المكسيك .. الآثار المترتبة والدروس المستنبطة

التسرب النفطي في خليج المكسيك الذي استغرقت عمليات وقفه نحو ثلاثة أشهر، والذي يعد أكبر كارثة بيئية في تاريخ الولايات المتحدة بدأ عند انفجار المنصة البحرية المملوكة لشركة بريتش بتروليوم (BP) في الـ 20 من نيسان (أبريل) الماضي، ولم توفق جهود الشركة في وقفه إلا في 15 تموز (يوليو) الماضي بعد تسرب نحو 4.9 مليون برميل من النفط الخام. هذه الكارثة تركت آثارا اقتصادية واجتماعية وبيئية ليس فقط في الاقتصاد الأمريكي، بل قد يكون لها نطاق أوسع وانعكاسات على صناعة النفط العالمية مستقبلا. وفي هذه المقالة سنحاول سرد أبرز الآثار الناجمة عن هذه الكارثة على الصعيدين المالي والتشريعي، واستعراض أبرز الدروس المستنبطة منها.

فاتورة التكاليف.. أرقام وانعكاسات
تلك الكارثة كلفت مجموعة بريتش بتروليوم خسائر بشرية بلغت 11 شخصا وتعويضات مالية دفعت للمتضررين بلغت منذ بدء التسرب النفطي نحو 428 مليون دولار، إضافة إلى فاتورة التكاليف المباشرة لوقف التسرب النفطي التي بلغت حتى منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي نحو 9.5 مليار دولار. وإزاء الانتقادات اللاذعة التي واجهتها شركة بريتش بتروليوم في الولايات المتحدة، التي ركزت على التوقيت والطريقة التي يمكن من خلالها احتواء هذا التسرب ـ والتي خفت حدتها بفعل التدخلات السياسية ـ أعلنت الشركة تخصيص 20 مليار دولار لصندوق تعويض المتضررين من تسرب النفط في خليج المكسيك. وهذه الأرقام الضخمة دفعت الشركة إلى الإعلان عن نيتها بيع 10 في المائة من أصولها خلال 18 شهرا بهدف جمع 30 مليار دولار لتعزيز موازنتها العمومية.
ومن المعلوم أن الشركات الكبرى ومنها الشركات النفطية قد تحصل من شركات التأمين على تعويضات تغطي الخسائر التي قد تتكبدها أثناء القيام بعملياتها من إنتاج وتكرير وتوزيع النفط والمشتقات النفطية نتيجة لفقدان أو تلف المعدات، إضافة إلى التعويضات التي تتحملها الشركات جراء المسؤولية تجاه أي طرف ثالث. لكن صرف هذه التعويضات يكون عادة مرتبطا بنتائج التحقيقات التي تجري، ويتم في حال ثبات عدم وجود ''إهمال جسيم'' من قبل الشركة المتضررة، إضافة إلى أن تلك التعويضات تحدد دائما بسقف أعلى حسب بوليصة التأمين. لكن القضية هنا شائكة، وقد تدخل في إطار نزاع قضائي طويل، لأنها تتضمن التعامل مع مطالبات مالية يحتمل أن تمثل قيمتها نسبة كبيرة من قيمة الأصول في الشركة النفطية العملاقة، وهذا بدوره يعني أن المبالغ المستحقة على شركات التأمين قد تتجاوز منطقيا قدرة أي شركة تأمين على تحملها وحدها. وما يرجح حصول هذا السيناريو ما يحظى به هذا الموضوع من اهتمام الشركات ومكاتب المحاماة ذات العلاقة بحمى الاحتكام إلى القضاء التي بدأت بالفعل. وتفيد وثائق قضائية كشفت أخيرا أن الإدارة الأمريكية لا تستبعد ملاحقة شركة بريتش بتروليوم بموجب القانون الأمريكي حول نظافة المياه والسواحل البحرية الذي يتيح لها المطالبة بنحو 1100 دولار مقابل كل برميل من النفط المتسرب، ما يعني تعويضات بقيمة تصل إلى أكثر من خمسة مليارات دولار.
ولدى ''بريتش بتروليوم'' أسباب تجعلها تشعر بارتياح بعد نشر تقرير التحقيق الداخلي أخيرا، الذي استغرق نحو أربعة أشهر وأسهم فيه 50 من الخبراء من داخل الشركة وخارجها. وبموجب التقرير تعترف الشركة بحصول بعض الأخطاء ـ كما كان ينبغي لها أن تفعل ـ لكنها ليست بالمستوى الذي يعرضها لادعاءات تتهمها بالإهمال الجسيم. وخلص التقرير إلى أنه لا يمكن تحديد عامل واحد وراء الكارثة بقدر ما يمكن حصر جملة من العوامل والقرارات المتراتبة والمتداخلة التي أسهم فيها أكثر من طرف من داخل الشركة وخارجها، في مقدمتها: أعطال ميكانيكية، سوء تقدير بشري، تصاميم هندسية غير مناسبة، وأخطاء عملية تنفيذية. ولعل أبرز ما جاء في التقرير الإشارة إلى تقاسم مسؤولية الأخطاء مع جهات خارجية موجها بذلك أصابع الاتهام إلى الشركات المتعاقدة مع شركة بريتش بتروليوم التي تعمل على المنصة البحرية، وهي تحديدا: ترانس أوشن Transocean وهاليبورتون Halliburton. وهذا ما عزز موقف شركة بريتش بتروليوم وجعلها تعرب على لسان إدارتها التنفيذية عن عزمها الدفاع عن نفسها بقوة لتجنب تحميلها كامل المسؤولية عن كارثة التسرب النفطي في خليج المكسيك.
ولعل الأمر لا يقف عند الخسائر المالية الإضافية التي قد تتحملها ''بريتش بتروليوم'' والشركات المتعاقدة معها فحسب، بل قد يتعداه لينعكس على نشاطات الاستكشاف العالمية من خلال التشريعات المتشددة التي يجري بلورتها في الولايات المتحدة، والتي قد تمتد لمناطق أخرى في العالم. جدير بالذكر أن التلوث كان دائما أحد المخاطر الرئيسة في عمليات استكشاف وإنتاج النفط من الحقول البحرية، وهذا ما يعكسه حجم التلوث وآثاره في خليج المكسيك. التنقيب عن النفط وإنتاجه في أعماق المياه يعتبر بطبيعته عملا محفوفا بالمخاطر، لأنه يتم في ظروف قاسية، وفي أماكن خطرة، وإذا ما أضيف إلى ذلك العامل البشري، وتبني الشركات النفطية نموذج الأعمال القائم على التعاقد مع شركات خارجية Outsourcing لتنفيذ بعض عمليات الإنتاج والتشغيل والصيانة، وضعف إجراءات الفحص الدوري لأداء التجهيزات Due dilligence، ستكـــــون هناك دائما مخاطر من حصول حوادث أو حتى كوارث يصعب التنبؤ بها على الرغم من اتخاذ الشركات النفطية أفضل تدابير السلامة والصحة، الأمر الذي يجعل إقرار تشريعات تلزم الشركات النفطية بإجراء اختبارات السلامة الصارمة والدورية أمرا ملزما لا غنى عنه.
في المقابل، فإن إقرار تشريعات جديدة ومتشددة في ظل تراجع الاحتياطيات النفطية للولايات المتحدة والعديد من الدول الصناعية، سيجعل الكثير من شركات النفط العالمية تحجم عن الاستثمار في استكشاف وإنتاج النفط من الحقول البحرية، الأمر الذي ستكون له انعكاسات على سياسات الإدارة الأمريكية الخاصة بتحقيق استراتيجية ''أمن الطاقة'' المتضمن الاستغناء عن النفط المستورد (خصوصا من منطقة الشرق الأوسط). علما بأن خليج المكسيك، الذي تم حفر نحو 40 ألف بئر نفطية فيه منذ عام 1947 حتى وقتنا الحاضر يمثل ركيزة مهمة في إنتاج النفط الأمريكي، حيث يسد نحو ربع الاستهلاك من النفط والغاز في الولايات المتحدة.
ومع ذلك تبنى مجلس النواب الأمريكي أخيرا تشريعات جديدة للتنقيب عن النفط في المياه العميقة تهدف إلى إصلاح القطاع وتجنب وقوع كارثة جديدة، وتنص الخطوط العريضة لتلك التشريعات على تبني معايير جديدة وصارمة للسلامة، وتقضي بحل ''إدارة الموارد التعدينية''، التي واجهت انتقادات حادة لتقصيرها في تفقد المنصة النفطية، كما يقضي النص بإلغاء حد المسؤولية المدنية الحالي الذي حدد سقف التعويضات بـ 75 مليون دولار للتعويضات المالية للسكان، والأنشطة التي تضررت من أي تسرب نفطي. وصوت مجلس النواب بأغلبية 209 أصوات مقابل 193 صوتا لمصلحة مشروع القانون وسط تحذيرات من المشرعين من الولايات المنتجة للنفط من أن من شأن القرار أن يلقي بعدد من منتجي النفط المستقلين خارج القطاع. ويتعين موافقة مجلس الشيوخ على مشروع القرار قبل أن يصبح قانونا ساريا. وبموازاة ذلك كشفت الإدارة الأمريكية أيضا عن مشروع قانون جديد يرغم الشركات النفطية العاملة في المنطقة على سد الآبار الناضبة بطريقة نهائية وإزالة المنصات المهجورة.
باختصار، التغييرات المقترحة في القوانين والتشريعات الخاصة باستكشاف وإنتاج النفط في الحقول البحرية ستجعل شركات النفط مجبرة على فرض رقابة مشددة على الأعمال التي تنفذ لمصلحتها وستزيد من التكاليف التشغيلية للمنصات البحرية، ما يضغط على هوامش أرباحها ويصرف اهتمامها عن تطوير تلك الحقول.

الدروس المستنبطة
كل أزمة تنطوي على دروس يمكن الاستفادة منها لتقليل احتمال تكرارها مستقبلا في مناطق أخرى من العالم ومن ضمنها منطقة الخليج العربي، خصوصا مع قيام المملكة وعدد من دول الخليج النفطية برفع مستوى إنتاجها من الحقول البحرية في الخليج العربي. وسأتطرق في هذا السياق وبإيجاز إلى ثلاثة جوانب هي تحديدا: الاستراتيجي، الإعلامي، والتشريعي.
من الناحية الاستراتيجية، أصبح أمرا ملحا تبني الشركات العالمية في رسالتها التنمية المستدامة ومعايير تعكس مسؤوليتها الاجتماعية وقيمها على المستويين الإقليمي والعالمي، على أن تعكس تلك الرسالة استراتيجية تنمية مستدامة إحدى ركائزها آليات للحوار مع الزبائن في موضوعات عادة ما تتخذ مواقف دفاعية تجاهها والتحول بذلك نحو أسلوب تفاعلي إيجابي يتبنى الحوار الإيجابي بين الشركات وشركائها وزبائنها أو عملائها. واليوم أضحت استراتيجيات معظم الشركات الصناعية العالمية تأخذ في الاعتبار الجوانب البيئية والاجتماعية، لكن يبقى مطلوبا من تلك الشركات (ومنها الشركات السعودية التي لها أصول منتجة في الخارج) أن تلعب دورا أكبر مستقبلا من خلال التعاون مع الهيئات الحكومية والمجتمع المدني في الدول الصناعية لوضع إطار عمل جديد يحفز باتجاه التحول في نموذج أعمالها نحو ممارسات التنمية المستدامة.
في الجانب الإعلامي، أفرزت الكارثة درسا مهما لكبار التنفيذيين في الشركات العالمية مضمونه ضرورة التواصل بلغة عميقة وبشفافية تامة مع وسائل الإعلام، وتحديدا المرئي منها، وكذلك عامة الناس من أجل كسب ودهم ونفي أي اتهام بتجاهل مشاعر المتضررين منهم تحديدا. ولعل تنحية الرئيس التنفيذي لمجموعة بريتش بتروليوم توني هيوارد من منصبه وتعيين روبرت داديلي في محله، الذي سيباشر مهام عمله مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الجاري على خلفية الانتقادات اللاذعة التي وجهتها وسائل الإعلام لهيوارد على طريقة تعامله مع الكارثة وتصريحاته الاستفزازية التي أدلى بها في الأيام الأولى بعد حصول التسرب النفطي، التي قلل فيها من آثار المشكلة في حينها. ويندرج في هذا السياق إطلاق موقع تفاعلي خاص بالشركة يتلقى ملاحظات وشكاوى المتضررين من جراء أي مشكلة أو مخاوف عن ممارسات قد تقود إلى وقوع كوارث بيئية كتلك التي حصلت في خليج المكسيك. والمثال الذي يحضرني في هذا الصدد إطلاق شركة شل Shell موقعها التفاعلي المسمى TellShell الذي تم تفعيله عام 2005.
في الجانب التشريعي، مطلوب وبسرعة تبني تشريعات محلية وإقليمية تحدد معايير صارمة للسلامة والبيئة وتلزم الشركات العاملة في حقول النفط البحرية في الخليج العربي وناقلات النفط العاملة في المنطقة ومرافئ تخزين النفط بإجراء اختبارات دورية وصارمة لمعايير السلامة والبيئة في منشآتها، وكذلك تحديد أطر مسؤولية تلك الشركات تجاه المتضررين في حالة حصول أي تسرب نفطي في مياهنا الإقليمية أو بيئة عملها ومستوى التعويضات المالية التي تخصص للمتضررين ومن ضمنهم الدولة، حتى نقلل احتمالات حدوث أي كارثة في هذا القطاع مطلوب فرض رقابة مشددة على الأعمال، سواء من قبل الشركات أو الهيئات الحكومية المختصة لتفادي حصول ما لا يحمد عقباه.
ولعلي أختم بالقول إن ''العاقل من تعلم من أخطاء غيره''، والكوارث التي تقع في أي منطقة من العالم تقدم دروسا مجانية لمن يريد أن يتعلم منها. ولعل من بين أبرز الدروس من كارثة خليج المكسيك التي يمكن أن يستنبطها التنفيذيون في شركاتنا الوطنية درسين، أولهما ضرورة بلورة خطط طوارئ مفصلة Plan B تأخذ في الحسبان الاحتمالات الممكنة كافة، والأخرى التزام العمل بزرع ثقافة ''السلامة فوق أي اعتبار آخر''، وهذا يتطلب تدريبا وتأهيلا أفضل للكوادر البشرية ومستوى متابعة وإشرافا أقوى ليس فقط داخل الشركة، بل يمتد ليشمل عمليات الشركات المتعاقدة معها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي