الغرب مشغول في قراءة الظاهرة السياسية التركية

أثار إعادة تركيا توجيه سياستها الخارجية في الإقليم وما ترتب على ذلك من خلافات مع بعض من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ـــ وهنا نشير طبعا إلى إسرائيل ـــ جدلا كبيرا في الغرب، خاصة في واشنطن، فقد كثرت الانتقادات التي وجهت لحكومة رجب طيب أردوغان الذي يقود حزبا إسلاميا يتهمه الكثيرون في واشنطن بأنه مسؤول عن التغير الذي طرأ على مقاربة تركيا في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط. وبالتالي يُطرح سؤال وبكثرة، هو: هل أدارت تركيا ظهرها للغرب بسبب التغير في طبيعة النظام الحاكم في أنقرة أم أن الأمر تطور طبيعي له علاقة بالأمور الجيوستراتيجية بصرف النظر عن الأيدولوجيات التي تحكم البنية الذهنية للنخب التي تحكم في أنقرة؟

في الثاني من الشهر الماضي أفردت مجلة "الإكونوميست" الشهيرة في عددها قبل الأخير مساحة لمناقشة فيما إذا كانت تركيا بالفعل أدارت ظهرها للغرب؟.. ويتوصل المقال إلى نتيجة أن تركيا لم تقم بذلك، مع الإقرار بأنها من الممكن أن تسير في هذا الاتجاه في حال عدم قدرة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التعامل مع نجاحات تركيا في العقد الأخير. فتركيا التي تحتل موقعا استراتيجيا يمنحها القدرة على التأثير كانت قد مرت بتحولين كبيرين، أحدهما اقتصادي والآخر يتعلق بالسياسية الخارجية.

فتركيا التي تعد من الدول الفقيرة في المصادر تمكنت من النهوض باقتصادها بشكل لافت، فبعد عقود من النمو المتذبذب تعود إلينا تركيا باقتصاد يعتمد على التصنيع والتصدير، فتركيا اليوم تصدر المنتوجات الكثيرة من السيارات إلى الأسمنت إلى أجهزة التلفزة والكثير من السلع ما يجعل من الاقتصاد التركي الأسرع نموا من بين اقتصاديات دول منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، وهذا الأمر حدا بالبعض إلى إطلاق وصف تركيا وكأنها "صين" أوروبا نسبة للنمو السريع للصين على المستوى الكوني.

أما على صعيد السياسة الخارجية، فحدّث بلا حرج، فتركيا التي تمتلك ثاني أكبر جيش في دول الناتو بعد الولايات المتحدة كانت دائما قلعة متقدمة للغرب، خاصة أثناء الحرب الباردة عندما كان الاتحاد السوفياتي يشكل مصدر التهديد الرئيس على العالم الغربي، فتركيا دولة عضو في الناتو كانت محادية للاتحاد السوفياتي المترامي الأطراف، وهذا فرض على تركيا استراتيجية أفضت بالضرورة لإهمال المناطق الأخرى المجاورة لها. هنا طبعا يمكن الإشارة إلى تحول، فتركيا المدعومة باقتصاد قوي بدأت منذ سنوات قليلة ماضية بنشاط دبلوماسي مكثف في الشرق الأوسط وفي منطقة البلقان وحتى في إفريقيا، وهو أمر لا يريح حتى بعض حلفائها في الكثير من الأحيان، فتركيا بهذا المعنى أصبحت "برازيل" المنطقة الدبلوماسي إذا ما أخذنا في الحسبان تزايد تدخلها وقوتها الدبلوماسية. فهذا الأمر برمته أثار حفيظة أوروبا التي ترتجف من احتمال أن تنضم تركيا بثقلها السكاني إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن الولايات المتحدة لا تخفي قلقها من النشاط البارز لأنقرة في السياسة الخارجية. طبعا يختبئ منتقدو تركيا في الغرب خلف مقولة إن تركيا تنجرف نحو الأصولية الإسلامية بعض الشيء وما يعنيه هذا من أن الغرب يخسر تركيا. هذه الفرضية خاطئة وإذا ما استمر منتقدو تركيا في الغرب في ترديد هذه المقولة فهناك خشية بالفعل من أن تتحقق هذه المخاوف.

التصريحات والدراسات التي تظهر في الغرب متناولة الظاهرة التركية الجديدة، خاصة تلك التي تعزوها إلى هوية الحزب الحاكم الإسلامية لا تنم عن فهم عميق لديناميكية صناعة القرار في تركيا ولا لحقيقة ما يجري على أرض الواقع من تغيرات في بنية المجتمع التركي الذي لا يعني انتخابه حزب التقدم والعدالة وإيصاله لسدة الحكم في أنقره بأنه ترك أو تخلى عن القيم العلمانية وأصبح في طريقه ليصبح مجتمعا متدينا. فالقضية أعمق من مجرد فرضية مبسطة وسطحية من هذا النوع، إذن ما الذي يجري؟

يجيب عن السؤال أعلاه زيا ميرال وجوناثان باريس في مقالة لهما نشرت في مجلة "واشنطن كوارترلي" في عددها الصادر في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ويجادلان بأن التغير الذي طرأ على السياسة الخارجية التركية ليس متعلقا بهوية الحزب الحاكم وأن الأمر كان على الأرجح سيحصل نتيجة تطورات في الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية التي عصفت بتركيا في السنوات الماضية. فبالنسبة إلى المراقب التركي يعتبر وصول حزب التقدم والعدالة بقيادة أردوغان لسدة الحكم في تركيا ولمدة ثماني سنوات لغاية الآن تعبيرا عن انجراف كبير في قيم العلمانية. الأمر مختلف بالنسبة إلى المراقب الغربي الذي أخافه النصر الكبير للحزب في الانتخابات عام 2007؛ لأنه ربط بين ذلك وبين تهديد الإسلام العنيف، فالكثير من الغربيين أصبحوا يرون التهديد من زاوية الإسلام المتطرف، من هنا رأى الكثير منهم أن فوز الحزب الساحق في الانتخابات كمصدر قلق بأن الغرب يخسر تركيا. وزاد من الطين بلة من وجهة نظر الغرب أن تركيا نشطت في السنتين الأخيرتين في سياستها الخارجية بشكل يبعث على الريبة، خاصة بعد الصدام العلني مع إسرائيل على أثر حرب غزة وأسطول الحرية.

هذه الاستنتاجات المتسرعة عن وجهة تركيا هي نتيجة طرح السؤال الخاطئ، فمن وجهة نظر زيا ميرال وجوناثان باريس السؤال الصحيح ليس فيما إذا كانت تركيا تتخلى عن روابطها التاريخية مع الولايات المتحدة وأوروبا لصالح علاقات وروابط مع كل من إيران وسورية وبعض التنظيمات الأخرى في العالم الإسلامي، فالسؤال الصحيح هو: هل ستفضي الحماسة التركية الجديدة لأن تخطئ تركيا في حساباتها أو أنها تتصدى لقضايا فوق طاقتها أو أنها تخاطر بأن تخسر دورها في تعميق الاستقرار؟

لا يمكن فهم التغير الذي طرأ على توجيه السياسة الخارجية التركية دون الأخذ في عين الاعتبار السياق الاجتماعي الاقتصادي المتغير في تركيا، من هنا يمكن القول إن نجاحات حزب التقدم والعدالة في الانتخابات ومحافظته على قوته السياسية لم يكن نتاج أسلمة المجتمع التركي، بل نتيجة تعميق وتجذير الديمقراطية وظهور مجتمع حيوي يسعى لدفع مصالح تركيا بشكل براجماتي بعيدا عن سياسة العلمنة مقابل الأسلمة، فالقضية لا تتعلق بأي منهما بقدر ما تتعلق بالتغير في السياق آنف الذكر. ولو ألقينا نظرة سريعة على الكثير من استطلاعات الرأي العلمية التي تجريها معاهد متخصصة سواء داخل أو خارج تركيا لوجدنا أن نسبة الذين يريدون أن تكون الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع أقل من 10 في المائة بعد أن وصلت إلى 26 في المائة في عام 1999.

إذن القضية أعمق من ذلك بكثير، فبحلول عام 2002 بدأ المجتمع التركي بإظهار علامات عدم الارتياح من النخب الحاكمة التي تركزت في شمال غرب تركيا في مدن أنقرة واسطنبول وأزمير، وهي نخب عملت على الابتعاد عن المجتمع. وهذا الإحباط أو عدم الارتياح نتاج عملية إصلاحات اقتصادية أفضت إلى تطورات اقتصادية وتصنيعية وتجارية في مناطق وسط وشرق مدن الأناضول. وهذا المكون الاجتماعي الأناضولي ـــ إن جاز التعبير ـــ لم يكن مرحبا به أو لم يكن مندمجا في النخب العلمانية السياسية، ولم يتمكن الأناضوليون من وجود مخرج سياسي لهم يعكس الثقافة المحافظة والبراجماتية الاقتصادية. فهم يريدون اقتصادا تركياً مستقرا يكون حرا ومندمجا بالسوق الكونية، لكنهم في الوقت ذاته لا يريدون أن تخسر تركيا قيمها الدينية والثقافية أو أن تنصهر في الثقافة الغربية الليبرالية.

#2#

وبالتوازي مع التغير في الأناضول وصعود الثروة الأناضولية ـــ إن جاز التعبير ـــ ظهر في تركيا نوع جديد من الشباب، أو لنقل جيل جديد وهو جيل كزموبوليتي يرى في تركيا مجتمعا مرنا ومتعدد الثقافات وديمقراطيا، وهو جيل يرى تركيا عضوا كاملا في الاتحاد الأوروبي. هاتان الشريحتان الاجتماعيتان مهمتان، وهنا نشير إلى أنهما غير معنيتين أو مهتمتين بمرشح وسط اليمين من الأحزاب المعروفة، كما أنهما غير مهتمتين بالقوى السياسة الراديكالية الإسلامية أو اليسارية الثورية. هنا ظهر حزب التقدم والعدالة كحزب إسلامي محافظ بصوت جديد وبوجوه جديدة وبلغة جديدة وبسلوك جديد، وهو حزب متجه لأوروبا ويميل للإصلاح. نذكر هنا المحاولات التي قام بها الجيش التركي والحركات الوطنية التركية لنزع المصداقية عن حزب التقدم والعدالة، ومع ذلك فشلت المحاولة وانعكست سلبا على من حاول القيام بها وظهر الحزب كضحية لقوى معادية للديمقراطية. والأنكي أن القوات المسلحة والنخب العلمانية حتى النخاع خسرت الكثير من مصداقيتها واحترامها في تركيا. واللافت أن حزب التقدم والعدالة هو الحزب الوحيد الذي تمكَّن من التكيف مع التغيرات العميقة التي عصفت بالمجتمع التركي، في حين نجد أن أحزاب المعارضة تلجأ لخطاب قديم من القومية وحماية الدولة التركية من أعداء متخيلين، وبهذا يبقى حزب التقدم والعدالة الخيار الحيوي لقسم كبير من المجتمع التركي.

وهذا الصعود التركي الكبير في الإقليم وعلى مستوى العالم دفع بعض المحللين الغربيين إلى النظر لتركيا من زاوية إيجابية، فمثلا يرى ستيفن كينزر أن من مصلحة الولايات المتحدة التحالف مع تركيا التي أثبتت أن الإسلام والديمقراطية ليسا أمرين متنافرين. فيمكن القول إن تركيا هي أكثر دولة ديمقراطية من بين الدول التي توجد بها أغلبية مسلمة من السكان والمواطنين. ومع ذلك فالنشاط التركي في الشرق الأوسط ما زال العامل الذي يركز عليه الكثير من الساسة والمحللين في الغرب. فتركيا تبذل جهودا مضنية في السنوات الأخيرة لإظهار قوتها عن طريق المساهمة والمساعدة في حل الخلافات سلميا وعن طريق الحوار والدبلوماسية، ونشير هنا إلى الجهد الذي بذلته أنقرة لتذليل العقبات التي تقف في وجه عملية سلام بين سورية وإسرائيل، كما نشير إلى جهودها مع البرازيل للتوصل لحل مع إيران حيال المشروع النووي.

وحتى الرئيس أوباما اعترف بأهمية تركيا، وبالتالي كانت تركيا المحطة الأولى له في زيارته لدول المنطقة، وهنا يعترف أوباما بأن دور تركيا لم يعد كما كان عليه إبان الحرب الباردة، أي نقطة الفصل بين الشرق والغرب، فتركيا الآن هي نقطة التقاء الغرب والشرق بدلا من كونها نقطة الفصل كما كان في الزمان الغابر. هل تتصرف تركيا على هذا الأساس؟ الراهن أن الكثير من حركاتها في السياسة الخارجية يعكس بنية ذهنية تقرأ التغيرات الاستراتيجية الدولة بشكل جيد وتتفهم مستويات التهديد وتغير طبيعته وهي تتصرف وفقا لهذه القراءة بما يخدم مصالح تركيا وإمكاناتها.

وعودا على بدء، نقول إن التغير في السياسة الخارجية التركية بدأ ليس مع تولي حزب التقدم والعدالة مقاليد الحكم في أنقرة، لكن مع ظهور ثلاث قضايا خارجية ملحة ضغطت بمجملها لإعادة توجيه السياسة الخارجية، وهي: المراوحة في مفاوضات انضمام تركيا لدول الاتحاد الأوروبي، التغير في الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، تصاعد التوتر المتعلق بالطاقة في جوار تركيا.

فتركيا قدمت طلب الانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي في عام 1987، لكن ولغاية الآن تم قبول تركيا فقط في سياق الاتحاد الجمركي الأوروبي وما يتضمن ذلك من ضرورة توحيد التعرفة الجمركية، وكذلك توحيد قوانين التصدير إلى والاستيراد من أوروبا. وقد قرر الاتحاد الأوروبي بدء المفاوضات مع تركيا للعمل على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2005، وهذا الملف يتم تقييمه حسب معايير كوبنهاجن التي تطلب من الدولة المرشحة تعديل نفسها حسب الهياكل الأوروبية والقواعد والتنظيمات والالتزامات، وأن تشترك بالرؤية الاقتصادية والسياسية نفسها للاتحاد الأوروبي، وأن تكون فيها حكومة ديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان واقتصاد سوق مستقر. المقلق بالنسبة إلى تركيا أنه (الاتحاد الأوروبي) لم يفتح للنقاش والمفاوضات سوى 13 فصلا من أصل 35 فصلا ولم يتم إنجاز سوى ملف واحد، حدث هذا على مدار السنوات الخمس الماضية.

وهناك موقف من بعض الدول الأوروبية يفيد بأنها ستعارض منح تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي وأن أكثر ما يمكن أن تحصل عليه هو حالة تفضيلية ترفضها بطبيعة الحال أنقرة؛ لأن تعبير الحالة التفضيلية ما هي إلا وسيلة لعصر تركيا وأخذ أفضل ما عندها مقابل لا شيء يذكر. وبعد سنوات من المماطلة وبعد ازدواجية التعامل كما حصل مع قبول عضوية بلغاريا مع أنها أقل تأهيلا من تركيا توصل الأتراك بقيادة حزب التقدم والعدالة إلى نتيجة مفادها أن تركيا قد لا تحصل على العضوية الكاملة في الاتحاد وبالتالي لا طائل من الرهان على أوروبا، وعليه بدأت تركيا تنويع استثماراتها خارج دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد الأزمة المالية الأخيرة وبيان ضعف في الهياكل الأوروبية.

القضية الأخرى تتعلق بالتأثيرات الجيوسياسية التي أعقبت الحرب في أفغانستان وفي العراق، خاصة بعد أن استفادت إيران من الوضع وظهرت قوتها في كل من العراق ولبنان. وفي الوقت ذاته يبدو أن تأثير النظام السوري في الإقليم آخذ في الصعود. وفي ظل كل ما يجري، فقد قدمت التغيرات الكثيرة فرصة لأنقرة ليس فقط في الاستفادة من السوق المربحة كما هو الحال مع إعادة بناء العراق، وإنما فرصة لتركيا لتحقق غرض راودها دائما وهو لعب دور إقليمي كبير كمفاوض وصانع سلام في المنطقة.

كما أن التغيرات الأخرى ضغطت على أنقرة التي وجدت نفسها مجبرة على التعامل مع القوقاز بعد أن أظهرت روسيا رغبة في التوسيع من قوتها السياسية الإقليمية؛ مما خلق قلقا وتوترا في أوروبا وجورجيا وأوكرانيا. كما أن التوتر المتعلق بمصدر الطاقة بين المنتجين والمستهلكين منح فرصة لتركيا لأن تحوّل نفسها كطريق رئيس محايد للنفط في ضوء سعيها الدائم لأن تبحث عن طرق التوصل لاستقرار في مجال الطاقة عن طريق تنويع احتياجاتها في الطاقة وعلاقاتها في الطاقة أيضا.

القضايا الثلاث سالفة الذكر وتفاعلاتها أفضت إلى نوع من إعادة التفكير في السياسة الخارجية التركية، فأنقرة بهذا المعنى ستستمر في البحث عن الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي؛ لأن ذلك يخدم مصالحها، لكنها في الوقت ذاته كان عليها أن تنوع في روابطها الاقتصادية والسياسية، خاصة فيما يتعلق بقطاع الطاقة. ولتحقيق ذلك تسعى تركيا لتحقيق الاستقرار في المنطقة وبين الدول المجاورة لها وهي تسعى بالتالي للعب دور الجسر السياسي والدبلوماسي المحايد بين أطراف النزاع.

لكن وكما يشير مقال مجلة "الإيكونوميست" فإن تركيا تقع أحيانا في مطب التضامن الإسلامي الزائد على الحد. فهي على سبيل المثال تعاملت بلطف زائد عن الحد مع الرئيس عمر البشير، متجاهلة في الوقت ذاته مسألة الموقف الدولي منه والتهم الموجهة إليه كمجرم حرب. كما تشير المجلة إلى أن تركيا ارتكبت خطأ كبيرا في الانضمام إلى البرازيل في محاولة عقد صفقة مع إيران في الموضوع النووي. كما أن موقفها من إسرائيل، وإن أكسبها شعبية كبيرة بين العرب، هو موقف قد يثير لها الكثير من المشكلات مع حلفاء إسرائيل في الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة.

على كل، يمكن القول إن التغير في سياسة تركيا الخارجية لها جوانب إيجابية وأخرى سلبية، فموقع تركيا ـــ كدولة عضو في النيتو ولها ارتباطات وثيقة بالولايات المتحدة وأوروبا ولها جيش من أقوى جيوش العالم وعضو في مجموعة العشرين ـــ يسمح لها بأن تكون ذات فائدة في استقرار إقليم لا يبدو عليه أنه مستقر. لكن أيضا ما زلنا ننتظر أن تنجح تركيا في المساهمة في إحلال السلام في الشرق الأوسط وهي مهمة تبدو صعبة حتى على دولة بحجم تركيا، ناهيك عن أن الولايات المتحدة ما زالت هي القوى الأهم في رسم ديناميكيات السلم والحرب في الشرق الأوسط وليس تركيا. كما نشير إلى أن سياسة تركيا المستندة إلى عدم إثارة أي صراع Zero conflict ما زالت تصارع في قبرص وفي أرمينيا، فإن سياسة التقارب مع كل من السودان وسورية وإيران وروسيا وربما "حماس" تخلق جوا من عدم الثقة والراحة في علاقاتها مع أوروبا وإسرائيل والولايات المتحدة، وحتى لعدد من الدول العربية.

باختصار، لا تقود الأيدولوجيا تركيا في سياستها الخارجية وإنما ضرب من البراجماتية التي تسعى لتعظيم مكاسب تركيا خدمة لمصالحها القومية. فمخاوف الغرب من إمكانية أن تدير تركيا ظهرها للغرب هي تعبير عن هاجس غربي لا يستند إلى سند ملموس، كما أن المخاوف في أن تصبح تركيا إيران أخرى هي مخاوف ساذجة، فالتسامح مع ارتداء الفتيات الحجاب وغطاء الرأس في الجامعات لا يمكن أن يعبر عن تغير في الموقف من القيم العلمانية كأن على سبيل المثال يتم رجم الزناة! وعلى العكس من ذلك، فتركيا تسير في اتجاه صحيح وتقدم مثالا ناصعا في العالم المسلم حول إمكانية أن تتعايش الديمقراطية مع سيادة القانون في اقتصاد السوق الحر.

وتبقى المشكلة في الغرب وليس في تركيا، لهذا يطرح السؤال المهم التالي: هل يمكن أن تكون الولايات المتحدة والأوروبيون مستعدين لقبول تركيا كما هي كديمقراطية مسلمة لها ثقافة مختلفة وطريق دبلوماسي مستقل، لكنها في الوقت ذاته ملتزمة بالليبرالية الاقتصادية والسياسية؟ لا يبدو من النقاش الغربي أن هناك فهما لأبعاد التحول في السياسة الخارجية؛ لأن الغرب يقع في مشكلة من أي زاوية ينظر إلى تركيا، فهل ينظر إلى التحول في سياستها كنتاج لتغير سياسي فقط داخل تركيا أم أن الأمر يحمل أكثر من طاقته؟ هل لو لم يفز حزب التقدم والعدالة في الانتخابات كان من الممكن أن تكون سياسة تركيا تابعة كما كانت في السابق أم أن ثمة تغيرات استراتيجية كانت تحتم على القيادة التركية، بصرف النظر عن لونها الأيديولوجي، التصدي والتعامل معها بما يحقق المصالح التركية؟ مع أن هذا السؤال افتراضي إلا أنه يمكن القول إنه على الأغلب كانت السياسة ستكون باتجاه سياسة خارجية غير تقليدية كما كان سائدا إبان الحرب الباردة أو في التسعينيات من القرن الماضي، فالقضية إذن ليست قرارا مركزيا في أنقرة يسعى لأن تدير تركيا ظهرها للغرب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي