لماذا يحب الفرنسيون النزاع الاجتماعي؟

لماذا يحب الفرنسيون النزاع الاجتماعي؟

إن فرنسا بلد فريد من نوعه من عدة جوانب، فأين هو المكان الآخر من العالم الذي يمكن أن تشاهد فيه فتىً في سن الخامسة عشرة، وهو يتظاهر احتجاجاً على عدم تمكنه من التقاعد في سن الستين، ليتقاعد بعد ذلك بعامين؟ وأين يمكنك أن ترى سياسية بارزة مثل سيغولين روايال التي تعد المرشحة الاشتراكية الرئيسية لخلافة الرئيس ساركوزي عام 2012، وهي تشجع من هم في سن الخامسة عشرة على الخروج إلى الشوارع، والتظاهر؟ وأين يمكنك، في غير فرنسا، أن تشاهد أناساً في الـ71 من أعمارهم يدعمون المتظاهرين لإغلاق محطات الوقود، وبالتالي الانتظار ساعات طويلة لكي يملأوا خزانات وقود سياراتهم؟
نجد كذلك أن بعض السياسيين اليمينيين، مثل دوفلبان، رئيس الوزراء في عهد شيراك، كانوا يؤيدون صغار الشباب، ويتبنون مواقفهم، بادعاء أنه إذا تأخر تقاعد الناس، فإن الشباب سينتظرون فترات أطول للحصول على عمل. ويمكن أن تكون هذه العبارة أشد صيغة من التفكير الاقتصادي الجامد التي أعلنت على العالم أي أن سوق العمل مكونة من عدد محدد من الفرص. ولو كان الأمر كذلك لقضينا على بطالة الشباب بتخفيض سن التقاعد إلى الـ45.
فما الذي يتعلمه الفرنسيون في مدارسهم، بحيث يصبحون مؤيدين للإرهاب الاقتصادي والفوضى، طالما أن من ينظم هذه الفوضى هي النقابات العمالية؟
باستثناء بعض الأقسام الاقتصادية المتخصصة، فإن طلبة المدارس الثانوية في فرنسا لا يتلقون علوماً اقتصادية، أو مالية. ولذلك فإن أحد التفسيرات الرئيسية يذهب إلى معظم الفرنسيين ليست لديهم معرفة بأمور الاقتصاد، والمال. وربما يتلقى أولئك الذين ينالون شيئاً من علوم الاقتصاد في المرحلة الثانوية رسالة مختلطة. وقد توصلت إلى ذلك بعد إلقاء نظرة فاحصة على المواد الاقتصادية التي يتلقاها بعض طلبة الثانوية العامة في فرنسا.
وجدت أن المواضيع المطروحة أقرب إلى معلومات اجتماعية، حيث تبين لي أن أربعا من مواد الاقتصاد تحمل عناوين مثل ''الرضا الاجتماعي، وعدم المساواة''، و''الصراع والحشد الاجتماعي''، و''التكامل والتماسك''، و''السياسات التكاملية والاقتصادية الأوروبية''. وليست هنالك مناقشة للاقتصاد الكلي (الطلب والعرض)، أو قضايا الربح، أو تعظيم القيمة، أو مناقشة طريقة عمل الأسواق المالية، والأسواق الحرة على وجه العموم.
ويمكن العثور على البذور المعادية للرأسمالية، ولكل ما هو أمريكي في تلك المناهج. ويستنتج مؤلفو الفصل الخاص بالصراع والحشد الاجتماعي، بعد بحث طويل في التفكير الماركسي، ''أن أسباب الصراع بين الطبقات لا تزال قائمة، وقوية. وعلى الرغم من أن العمال يساهمون في الاستهلاك العام، إلا أنهم ينالون قسطاً أدنى من الخدمات، مقارنة بغيرهم من الطبقات. وهم يتمتعون بعطل أقل، ولديهم اتصال أدنى بالإنترنت، وليست لديهم خادمات، أو حاضنات أطفال''.
ويرى الفرنسيون أن واجب الدولة الفرنسية هو تقديم الرعاية الاجتماعية للجميع، طالما لا تحصل كل الطبقات على قدر متساوٍ من الرعاية. وطبيعي أن المساواة المطلقة أمر غير موجود، حيث إن الخادمات سيطالبن بأن تكون لديهن خادمات كذلك.
أما الفصل الخاص ''بالعمل والتشغيل''، فإنه يفسر وجود البطالة كنتيجة للتقدم التكنولوجي، حيث تحل الآلات محل بني البشر. ولا يمكن العثور في تلك المناهج على نقاش حول كيفية مساهمة الضرائب، والتكاليف الاجتماعية، والتنظيمات العمالية (مثل الحد الأدنى للأجور)، في إيجاد البطالة.
وأما الطبقة الأعلى من قطعة الحلوى هذه، فتتمثل في فصل يتناول ''الصراع والحشد الاجتماعي'' الذي يمكن أن يكون أحد أسباب انتظارنا جميعاً لساعات طويلة للحصول على الوقود لسياراتنا. ويرى بعض علماء الاجتماع في فرنسا أن الصراعات الاجتماعية تحرك الناس من أجل بذل النشاط والعمل، وأنها تسهم في تشكيل الهويات، وتعمل على تطوير التضامن. وإن أصعب ما يواجهك في مثل هذه المقررات الدراسية هو أن تنظر إلى دور إيجابي يمكن للصراعات الاجتماعية أن تقوم به.
واعتباراً من هذا العام أصبح من الإلزامي أن يتلقى جميع طلبة الثانوية العامة، وليس فقط طلبة المدارس المتخصصة، فصلاً في الاقتصاد، حيث سيتم تغيير المناهج. وسيستهدف التغيير جعل الطلبة أقدر على فهم كيفية عمل وسلوك الشركات، والأسر، والدولة، وكيف تتولى الأسواق تخصيص الموارد، بما في ذلك طريقة أسواق العمل، والأسواق المالية. ولذلك، فإن هنالك بعض الأمل الجاد بألا ينظر إلى الشركات في المستقبل كجهات يجب محاربتها، وإنما ككيانات تولد الأرباح، والثروات.
وحين جرى تقديم هذه الاقتراحات في أوائل العام الحالي، فإن عالم الاجتماع الوحيد في لجنة المناهج، فرانسوا دوبيت، استقال احتجاجاً عليها، وقال ''يجب عدم النظر إلى الشركات بعد الآن كجهات يعمل فيها الناس، أو أنها كيان اجتماعي، وإنما هي وحدة للإنتاج يجب عليها التكيف على الدوام مع ظروف البيئة المتغيرة''.
ودعونا نأمل بأن يكون هذا الرجل على حق، حتى يفهم الناس في فرنسا أنه حين يعطل المتظاهرون محطات الوقود، فإن سعر الوقود في تلك المحطات سيرتفع.

*أستاذ العلوم المالية في إنسياد

الأكثر قراءة