حلول عملية واستراتيجية قدمتها الشريعة لمشكلة الديون
مشكلة الديون والقروض المتعسرة إحدى أهم المشكلات في الاقتصاد الحديث، فبعضها ناجم عن تعثر وبعضها الآخر ناجم عن ضعف الضوابط وضعف الالتزام، والأكثر من ذلك غياب المقصد الاجتماعي والشرعي فيها، وبالتالي تحدث التراكمات وتتضاعف الأخطاء وتبرز المشكلات إلى السطح، وعندها يبدأ التفكير في العلاج، ولأن العقد شريعة المتعاقدين، فإن الجوانب القانونية واضحة، لكن المطلوب أيضا ألا تفتح الأبواب على وسعها للاقتراض دون ضوابط وشروط، وأن يعي المقترض ما المطلوب منه وما العواقب القانونية عليه، ولهذا طرحت في الآونة الأخيرة قضية الديون والإعسار كمشكلة تواجه المواطن من جانب، وتواجه المؤسسات الإقراضية من جانب آخر، الأمر الذي سلط الضوء على الرؤية الإسلامية الشرعية للعلاقة بين الدائن والمدين.
الدكتور سامر مظهر قنطكجي الباحث والمختص في المالية الإسلامية أوضح أن ضمان الحقوق واستقرار العلاقة بين المدين والدائن يشكل توسعة على الناس في معاملاتهم، مما يحقق نشاطاً اقتصادياً يساعد في بسط الرخاء بين الناس، وأشار إلى أن الشريعة الإسلامية قد رعت العلاقة بينهما، فضبطت جميع الأطراف تحقيقاً لاستقرار المجتمع ونجاح علاقاته ببعضها البعض، وقال قنطكجي في حديثه لـ«الاقتصادية» إن الشريعة الإسلامية أرست بفقهها حلولاً استراتيجية، ولتحقيق تلك الحلول لا بد من الأخذ بها كلها، فالحلول الجزئية لا تكفي ولا تفيد، وهذا من صفات هذه الشريعة الغرّاء.
وحول كيفية معالجة الشريعة لمشكلة الديون، قال قنطكجي: لقد قدمت شريعة الإسلام حلاً على مستوى المجتمع، وجعلت الزكاة ـــ ومن ضمنها مصرف الغارمين ـــ من صلب إقامة الإسلام؛ بوصفها ركنا من أركانه، فبدونه لا يقوم إسلام المرء، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام، حيث ارتبط ذكرها بإقامة الصلاة عشرات المرات في القرآن الكريم، وجُعل أحد مصارفها مصرف الغارمين، أي المجتمع كله كفيل برفع العبء عن المدينين بتقديم المساعدة لهم للوفاء بديونهم، كما أوجب لهم من بيت مال المسلمين حظاً، فقد روى أحمد في مسنده قوله ـــ صلى الله عليه وسلم: (من ترك دينا أو ضَيعة فإليّ)؛ ويمثل رسول الهدى ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بيت المال.
وأشار قنطكجي إلى أن شريعة الإسلام قدمت حلولاً على مستوى الفرد الممارس لأعمال التجارة التي تنجم عنها ديون وقروض، فطلب الله ـــ تعالى ـــ من الدائن إمهال المدين المعسر (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون)، وهنا لفتة رائعة؛ وهي أنه يلاحظ استعمال القرآن الكريم كلمة ‘’التصدق’’ عوضا عن عبارة «الديون المشكوك فيها» أو «الديون المعدومة»، حفاظاً على شعور المدين ولإبقاء العلاقة بينهما ضمن الإطار الاجتماعي. ووجه ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ الدائن بقوله من أنظر معسراً أو وضع له، أظله الله في ظله، وأيضا من يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، وحديث من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه. ودعا للدائن لما له من فضل في التوسعة قائلا: ‘’كان الله مع الدائن، وحديث رحم الله عبدا سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى’’.
ونبه قنطكجي إلى أن الشريعة لم تغفل جانب المدين، فقد وجه رسول الهدى ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ توجيهاته للمدين أيضاً لضبط أفعاله، فقال: «خيركم أحسنكم قضاء». وفي ذلك حثّ للمدين على قضاء دينه بأحسن ما كان، دون شرط مسّبق. وقال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»، وفي ذلك تشديد على حرمة الدَين وضرورة إيفائه، وحديث يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّين، على الرغم من مقام الشهادة في الإسلام، كما أن رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ تعوذ من الدين في دعائه المأثور: اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وصلى الله عليه وسلم ـــ لم يتعوذ إلا من كبير، وهذا دلالة على أن التمادي في الاستدانة دون حاجة أمر غير محمود.
وفي حديثه حول أهم النتائج الاجتماعية السلبية التي قد تطرأ من استفحال الدين في المجتمع، قال قنطكجي إن النتائج الاجتماعية كثيرة ولعل من أهمها ما حذّر منها رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ من الإغراق في الدَين فقال: «إن الرجل إذا غرِم حدّث فكذب ووعد فأخلف»، فانتشار المطل وعدم الدفع يخلخل الحياة الاقتصادية ويؤدي إلى إحجام الناس عن البيع بالدين مما يضيّق عليهم في معاملاتهم ويؤدي لاضطرابات في السوق.
كما أوضح قنطكجي أن توجيهات الفقهاء في الفقه الإسلامي لم تخل من الاهتمام بالأمر، فالفقه الإسلامي مليء بالتوجيهات، لعل من الأمثلة أن الإمام الغزالي طلب من المدين أن يمشي لصاحب الدين ويعطيه حقه فقال: من الإحسان فيه حسن القضاء؛ وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحق ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه، فهذا من أدب الدَين. وقد رده الغزالي لدرجة إيمانية أعلى وهي الإحسان. إن ما سبق يهيئ المجتمع لتشكيل أرضية تحتية تضبط مخاطر الائتمان وتحد منه من خلال توجيه أطراف العملية الائتمانية نحو ما ينفعهم.
وأشار قنطكجبي إلى أن دراسة مؤشرات معاملات العميل مع البنك من الأهمية بمكان، لأنها تؤمن معلومات مهمة وجوهرية في بيان اتجاه الشركة أو المؤسسة المدروسة نحو الإعسار المالي أو الاقتصادي من خلال مراقبة تصرفاتها. مثال ذلك: كشف حساب العميل، وطلباته، وحركة ضماناته، ولكل منها تفصيلاته، وأخيراً يُساعد التأمين على الديون ـــ وخاصة التكافلي ـــ منه في ضبط مخاطر الائتمان لأن مساعدة المدين وكفالته إنما ذلك من باب التكافل الذي يقدمه هذا النوع من التأمين.