جولدستون بين الموضوعية والضمير والتخويف بسوء المصير

القاضي اليهودي الجنوب إفريقي ريتشارد جولدستون سطع اسمه ولمع عندما تصدى للمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين فيما أطلق عليه حرب غزة 2008 و2009، وذلك عندما اختاره مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ليرأس بعثة لتقصي الحقائق، التي صدر عنها ما عرف باسم تقرير جولدستون.
عندما انتشر التقرير إعلامياً حظي جولدستون بموجة من الإكبار والإعجاب، وتساءل المحايدون: كيف ليهودي أن يكتب تقريرا يدين فيه إسرائيل؟ ''كانت النتيجة ضربة إعلامية موجعة لإسرائيل جعلتها تعود إلى دفاترها القديمة لعلها تتدارك الآثار وتحقق ضربة إعلامية لصالحها.
وإسرائيل كما نعلم جميعا خبيرة في دهاليز الضغوط السياسية, فهي تلجأ إلى الوعد والوعيد والإغراء والتهديد وتدرك أن بلدا كالولايات المتحدة يحركه الإعلام والأهم من الإعلام إدراكها أن واشنطن تتخذ كافة قراراتها بناء على الضغوط lobbying فخصصت كبار مؤيديها من منظمات وأفراد وساسة للقيام بهذا الدور.
وعندما صدر تقرير جولدستون رأى فيه اليهود موقفا يهوديا جديرا بالإعجاب لأن يهودياً تناسى يهوديته ووقف إلى جانب الحق، وكشف النقاب عن الجرائم الإسرائيلية.
ولكن صحيفة ''الواشنطن بوست'' الأمريكية حملت لنا ما نسف كل هذه الأوهام والأحلام. فقد كبت القاضي ريتشارد جولدستون نفسه مقالا في الصحيفة دمر فيه إنجازه وفتح الباب أمام التساؤلات القديمة حول الأساليب الصهيونية التي لا تتغير ولا تتوقف. قال جولدستون في مقاله: إننا الآن نعرف عن حرب غزة 2008/2009 أكثر مما كنا نعرفه في أعقاب الحرب عندما ترأست بعثة تقصي الحقائق التي عينتها الأمم المتحدة والتي أنتجت تقرير جولدستون، وإذا كنت قد عرفت عندما كتبت تقريري ما أعرفه اليوم لما جاء التقرير كما صدر بل كان سيصدر كوثيقة مختلفة''.
هذه الفقرة كافية لأن تروي لنا ما يفعل الإسرائيليون، وهم لا يعتبرون أن أيا من الأمور التي تهمهم قد أغلق ملفه، بل تابعوه وطاردوه واستخدموا وسائلهم المعهودة حتى يعود الرجل نادما نافيا ما كتب متنكراً لعمله ومنكراً لجهوده. وما هي الحيلة؟ الحيلة ببساطة أن يقول إنه تلقى معلومات إضافية جعلته يقدم على تعديل أفكاره. ولكن الأمر أكبر من ذلك لأنه لا يقتصر على تقرير جولدستون بل على كافة الأمور المتعلقة بالحل السلمي وغيره.
الواقع أن جولدستون اطلع على تقرير صهيوني كتبته لجنة من الخبراء المستقلين برئاسة القاضية الأمريكية السابقة ماري ماكجوان دافيز, وصدر بعد صدور تقرير جولدستون، وقالت ماكجوان دافيز في تقريرها: ''إن إسرائيل قد وفرت لنا مصادر مهمة للتحقيق في 400 اتهام بسوء تصرفها في غزة, بينما لم تقم السلطة الفعلية في غزة ''تقصد حماس'' بأية تحقيقات في مسألة إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون ضد إسرائيل''.
والحيلة واضحة وتتلخص في أن تقرير جولدستون تجاهل هجمات حماس وركز على عدوان إسرائيل، ولكي ننعش ذاكرة قارئنا العزيز فقد كانت الهجمة العدوانية الإسرائيلية رهيبة وراح ضحيتها المئات مقابل عدد لا يذكر من الإسرائيليين الذين واصلوا عدوانهم لأيام متواصلة.
يعود النادم الخائف جولدستون ليقول: ''إن تقريرنا وجد أدلة على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ولكن ذلك كان من فعل إسرائيل وحماس التي قامت بجرائم متعمدة مع سبق الإصرار, ذلك أن صواريخها كانت تتوجه إلى أهداف مدنية بلا تمييز أو تريث''. أي أن جولدستون يكرر النغمة الإعلامية الرتيبة التي تدفع بها إسرائيل كلما أقدمت على مذبحة أو عدوان واسع النطاق ويواصل تضليل نفسه بالقول: ''إن الحديث عن سوء نية إسرائيل وإصرارها على القتل اعتمد على الوفيات والإصابات التي لحقت بالمدنيين وهي أمور لم تتمكن لجنتنا لتقصي الحقائق من التحقق منها، ولكننا حصلنا من إسرائيل على الأدلة بأن ضربات حماس كانت متعمدة''.
ودافع جولدستون عن رأيه الجديد بضرب مثال بالأسرة الفلسطينية التي قتل منها 29 فرداً بعد ضربة صاروخية مباشرة على بيتهم، فيقول إن هذا القرار أثبتت إسرائيل أن الضابط الذي اتخذه، فعل ذلك بالخطأ, وتم التحقيق معه لذلك!
وأضاف جولدستون ''وأنا أثق بأن الضابط إذا ثبتت إدانته بالإهمال أو عدم الدقة سيعاقب, كما أبلغتني إسرائيل''.
وفي المقالة موضع اهتمامنا قال جولدستون إن عدم تعاون إسرائيل معنا جعلنا لا نعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلوا، وعندما حصلنا على الأرقام تساوت مع الأرقام التي قدمتها لنا حماس، علما بأن حماس تميل إلى المبالغة!
إننا لم نحاول في تقريرنا أن نخرج بنتائج ضد إسرائيل لأنها دولة ذات سيادة ولها الحق في الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها من أية هجمات خارجية أو داخلية ـــ وهي نفس العبارة التي يرددها ساسة أمريكا في تبرير العدوان الإسرائيلي على أي طرف عربي.
واستمر جولدستون في دق طبول التأييد لإسرائيل بقوله: ''إنه ما من شك في أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يعادي إسرائيل وهو منحاز ضدها دائماً.
وقد أطلق جولدستون العنان لخياله عندما تخيل أن هناك من يستنكر ردته ويسأله عن طبيعة مهمته فيقول: ''إن بعثتنا لم تتبع أية معايير قضائية أو حتى شبه قضائية، ولم نتحقق من أي سلوك إجرامي لكل من شارك في الحرب، وكم أتمنى أن تفعل حماس ما فعلته إسرائيل بإجراء تحقيقات موسعة! ولكن حماس لا توقف نشاطها, فهناك مزيد من الصواريخ تطلقها حماس وهو ما ينبغي إدانته!''.
وانطلق القاضي المذعور مردداً: ''يجب أن يدين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حماس لذبحها اثنين من الإسرائيليين في الفترة الأخيرة''.
ولعل أفضل ما صنعه التقرير هو الحث على إنهاء الحرب وتطبيق القانون الدولي لوضع حد للحروب المطولة، ولكن ذلك لم يمنع جولدستون العائد بسرعة إلى معسكر عشيرته الأصلية من أن ينقل جام غضبه إلى فتح في الضفة الغربية التي اتهمها بأنها تعذب أفرادا من حماس. وواصل الرجل هجومه على كل ألوان الطيف الفلسطيني، وقال إن مسؤولية المنظمات والجمعيات لا تقل عن مسؤولية الدول والجيوش النظامية.
وقد رد سامي أبو زهري المتحدث باسم حماس قائلا: إن تراجع جولدستون لا يغير الحقائق ولا يلغي جرائم الحرب التي ارتكبها الصهاينة، فهي جرائم ارتكبت ضد 1.5 مليون نسمة، وقال إن حماس تعاونت مع لجنة جولدستون تعاونا كاملاً. وقال رياض المالكي وزير خارجية السلطة الفلسطينية: ''إن تقرير جولدستون كان واضحاً بقدر الجرائم التي سجلها'' فانقلاب جولدستون 180 درجة دليل ساطع على أسلوب إسرائيل في التعامل مع الحقائق التي تدينها. ونحن لا ندري الأسباب التي دفعت قاضيا وقورا لتغيير كلامه، ولكن البشر بشر، والخوف من التهديد سلاح رهيب يحسن الصهاينة استخدامه. إننا ندعو لجولدستون بالسكينة ومعها أيضاً السكون لأننا في عصر الإعلام المفتوح والثورة الإلكترونية لم نكن في انتظار تقريره لنعرف, لأن الجريمة الإسرائيلية كانت ملء السمع والبصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي