ضوابط في تسبيب الأحكام القضائية (1 من 2)
من الأمور التي تساعد تطور القضاء معرفة القاضي الأصول الفنية لكتابة الحكم القضائي ولا شك أن التسبيب من الأمور التي يشترط توافرها في الحكم القضائي، ويتبع ذلك بعض الأمور الشكلية التي تعود إلى حسن الصياغة والتسلسل المنطقي في التسبيب وطريقة الاستشهاد بالنصوص الشرعية والمواد النظامية، وانطلاقا من هذه القواعد العامة يمكن أن نقول إن لتسبيب الأحكام القضائية ضوابط عدة، منها:
1- توضيح المستند الشرعي والنظامي في الحكم:
لا بد أن يبين القاضي مستنده في تقرير الأسباب، شرعية كانت أو واقعية، حيث يكون الدليل مبنيا على أصل صحيح واضح الدلالة، فلا يكفي قول القاضي في التسبيب الشرعي: (وهذا مما جاء في كتاب الله)، ثم لا يذكر الآية التي استند إليها ووجه الدلالة منها. ولا قوله: (وهذا مما دل عليه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ثم لا يذكر الحديث الصالح للاحتجاج به ووجه الدلالة منه، ولا يكفي قوله: (وهذا مبني على أصل شرعي)، ثم لا يبين هذا الأصل ومأخذه ومصدره، ولا قوله: (وهذا مما قرره العلماء)، ولا يذكر نص كلامهم. وكذا ينبغي أن يعتمد القاضي في التسبيب الواقعي على الوقائع المقدمة له والمدونة لديه، فلا بد أن يكون التسبيب الواقعي للأحكام مستمدا مما تداعى فيه وقدموه للقاضي من دعوى، وإجابة، ودوافع، وبيانات، وطلبات مما تم ضبطه في محضر القضية، فلا يصح تسبيب الوقائع بأسباب لم يتداع فيها الخصوم ولم تقدم للقاضي، كما لا يصح اعتماد القاضي في التسبيب كليا على علمه الشخصي؛ لأنه ممنوع من الحكم بعلمه، خلافا لرأي ابن حزم الظاهري وغيره، ولكن يمكن الاستئناس به من وجهة نظري جمعا بين الأقوال، كما هو مذهب ابن القيم الجوزية ومنهج الإثبات المختلط عند القانونيين، والذي يعطي القاضي مساحة أوسع في نظر الأدلة والقرائن؛ ولذلك يُلزم القاضي إجرائيا اتخاذ المحاضر والسجلات للقضية، والمنازعات، والإقرارات، والشهادات، للاعتماد عليها عند الحكم.
ولا يعتد القاضي في تسبيبه للوقائع بما لم يدون لديه في محضر القضية، ولو احتج الخصم ببينة مدونة في محضر أو صك آخر ورأى القاضي إعمالها فلا بد من نقلها أو مضمونها في محضر القضية الحالية، ومن ثم الاستناد إليها في التسبيب، وللقاضي الاسترشاد في تسبيبه على حكم سابق - نهائي - بعد إلحاق مضمونة في محضر القضية، وهذا ما يجري به العمل.
2- أن يقوم الحكم على الأسباب الكافية:
المراد بكفاية التسبيب هنا: أن يورد القاضي من الأسباب الشرعية والنظامية أو الواقعية ما يدل على صحة نتيجة الحكم الذي تم التوصل له.
فلا بد أن يكون التسبيب قد توافرت فيه الوقائع اللازمة لتطبيق الحكم الملائم للواقعة، وهذا يحتم على القاضي الاعتناء بالتكييف الفقهي للواقعة فمثلا عقد الهبة إذا كان بمقابل يكيف على أنه بيع وليس هبة، حتى وإن كان مسمى العقد هبة.
يقول ابن عاشور:(فليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محمودا إذا لم يكن الفصل قاطعا لعود المنازعة ومقنعا في ظهور كونه صوابا وعدلا).
ومن المسائل العلمية أيضا ألا يزيد القاضي من الأسباب ما لا حاجة له، بل يقتصر على قدر الحاجة، ولا يعني هذا عدم التمسك بالأسباب المؤيدة للسبب الأصلي إذا كان لإيراده زيادة فائدة في تقرير المعنى وتقويته، فيجوز تسبيب الحكم بأكثر من سبب لمدلول واحد؛ لأن اجتماع الأدلة على المدلول الواحد يؤكد قوة الدلالة، مع الأخذ في الاعتبار أن حشد الأدلة المؤثر وغير المؤثر قد يؤثر على سير القضية ويجعل للاستئناف مدخلا بنقض الحكم مع أن النتيجة قد تكون صحيحة.
ولذلك يفضل التمسك بأقوى ما في المسألة من الأدلة، حيث تتناسق الوقائع مع وجهة استدلال القاضي في حكمه.
ومن المؤسف أن تجد في الحكم أسبابا ضعيفة أو متكلفا في الاحتجاج بها، خاصة إذا كان القاضي ممن يعتمد نقل أدلة المترافعين بنصها دون تفحص دقيق، وأشنع من ذلك الاستناد على الأحاديث والآثار الضعيفة التي لا تصلح للاستدلال، والتي تنقل من كتب الفقهاء دون اعتبار لصحة ثبوتها، وإن كانت هذه الظاهرة اضمحلت بين الوسط القضائي ولله الحمد في الفترة الأخيرة بعد انتشار الوعي في الاعتناء بصحة الأحاديث والآثار.
3- أن يكون التسبيب مرتبا: والمراد بترتيب التسبيب هنا: تسلسل الأسباب منطقيا حتى يأخذ بعضها ببعض سواء من الناحية الزمنية، أو الأقوى دلالة كل قضية بحسب حالها، فالقاضي عند تسبيب الحكم يلحظ ترتيب الأسباب حتى يأخذ بعضها ببعض، بحيث تترتب منطقيا وعقليا ويبدأ بالأهم، ثم المهم، وعلى القاضي أن يلحظ عند تسبيب حكمه أن يكون استنباطه مرتبا غير مقلوب ينطلق فيه من المقدمات إلى النتائج، ومن الدليل إلى المدلول.
ومن حيث الإجراءات، هناك مسألتان في ترتيب الأسباب بعضها مع بعض أو مع الحكم:
الأولى: هل تتقدم الأسباب الواقعية على الشرعية؟
والثانية: هل تتقدم الأسباب على الحكم؟
أما عن المسألة الأولى: فالأصل تقديم القاضي عند تسبيب حكمه الأسباب الواقعية، ومن ثم يتبعها بالأسباب الشرعية والقانونية وصفة انطباقها على الوقائع، وهذا ما يجري به العمل.
وأما عن المسألة الثانية: فأسباب الحكم يجب أن تتقدمه حقيقة، فلا يصدر حكمٌ إلا بعد تقرير أسبابه في الذهن، وهل يجب أن تسبقه كتابة؟ بمعنى: هل يجب تدوينها قبل تدوين الحكم أو يجوز أن تساق كتابة بعد الحكم؟
جرى العمل على أن الأسباب عند تدوينها تسبق الحكم فتدون الأسباب ثم يتبعها الحكم.
ولقد جاء القرآن الكريم بالطريقتين، فتارة تسبق العلةُ الحكم، وأخرى يسبق الحكم العلة.
فمن الأول: قول الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ)، فقد سبقت العلة الحكم. ومن الثاني: قوله تعالى: (مّا أَفَاءَ اللّهُ عَلى رَسولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللّهِ وَلِلرّسولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَاليتامى وَالْمَسكِينِ وَابْنِ السبِيلِ كيْ لا يَكُونَ دُولَة بَينَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) فقد أعقب الحكم بالعلة. وقواعد المرافعات أخذت بتدوينها كتابيا قبل إعلام الحكم.
4- أن يكون التسبيب متناسقا:
والمراد بتناسق التسبيب هنا: توافق الأسباب، وعدم تعارضها بعضها مع بعض أو مع الحكم. مثل أن تكون الجريمة محل الحكم جريمة استغلال نفوذ وظيفي ويجعل بعض أسبابها ما يفهم أنها جريمة إساءة استعمال سلطة وهكذا.
فعلى القاضي أن يلحظ عند تسبيب حكمه توافق الأسباب بعضها مع بعض، فتكون ملاقية للدعوى والإجابة والدوافع والطلبات، فلا تكون الوقائع والأحداث في جهة والأسباب في جهة أخرى. وكذلك لا تتعارض الأسباب أو تناقض بعضها بعضا فيما بينها، أو مع الحكم . وذلك كأن يقول القاضي في تسبيب حكمه: وبما أن المدعي قد أثبت تملكه للسيارة المدعاة، كما أن المدعى عليه قد أثبت تملكه للسيارة المدعاة، ثم لا يجيب على هذا التعارض مبينا وجه الجمع أو الترجيح.
فعلى القاضي أن يوضح في أسباب حكمه ما يثبت من الوقائع، والرد على ما يعارضها، والإجابة عن ما قد يرد التباس في الفهم والتطبيق.
هذه بعض الضوابط الفنية التي يلزم اعتناء القاضي بها ويمكن للمحامين والمترافعين ملاحظتها في الأحكام، وأشار إلى بعض منها العلامة ابن خنين في كتابه التسبيب وسنكمل ذلك في المقال القادم - بإذن الله