التحكيم في العقود الإدارية .. المشكلة والحلول
تُعد العقود الإدارية من أهم العقود التي تبرمها الدولة لأنها تنصب على تنفيذ مشروعات كبرى ومهمة منها استثمار الثروات الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن وعقود إنشاء المطارات والبنية التحتية وعقود الإنشاء والتشغيل ونقل الملكية BOT، لذلك يجب توافر الشفافية الكاملة في الإعلان عن هذه المشاريع والتعاقد عليها وحل المشكلات الناتجة عنها بهدف حماية المال العام ودفع عجلة الاقتصاد الوطني بشكل ناجع وفاعل.
إن التحكيم يؤدي دوراً مهماً في حسم المنازعات الناتجة عن عقود التجارة الدولية والمحلية بشكل عام، وكذا منازعات العقود الإدارية بشكل خاص، حيث جعلت العديد من الدول العربية والأجنبية التحكيم الطريق الأمثل للفصل في هذه المنازعات نظراً لما يتميز به من مميزات عديدة مثل سرعة الفصل في القضايا وقلة التكاليف والسرية وغيرها، كما يُعد التحكيم إحدى الوسائل التي تساعد على تشجيع أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في المملكة، حيث يحبّذ المستثمر الأجنبي اللجوء إلى الفصل في النزاع الخاص به عن طريق التحكيم، لاعتقاده بانحياز القضاء الوطني لدولته، وأن التحكيم وسيلة محايدة.
ومن مطالعة نظام التحكيم السعودي الصادر بالأمر الملكي رقم م/46 وتاريخ 12/07/1403هـ، يتضح أنه لا يجيز لمؤسسات وهيئات الدولة اللجوء إلى التحكيم لفضِّ المنازعات الناشئة عن العقود الإدارية إلا بعد الحصول على موافقة رئيس مجلس الوزراء، سواء حال النص على شرط التحكيم في العقد أو الاتفاق على حل النزاع بطريق التحكيم بعد حدوث النزاع، وبذلك تم إلغاء العمل بقرار مجلس الوزراء رقم 58 وتاريخ 17/01/1383هـ ليحل محله نظام التحكيم الحالي الذي نظم عملية التحكيم في العقود الإدارية، إذ نص في المادة الثالثة منه على أنه ''لا يجوز للجهات الحكومية اللجوء للتحكيم لفضّ منازعاتها مع الآخرين إلا بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، ويجوز بقرار من مجلس الوزراء تعديل هذا الحكم''.
وورد في المادة الثامنة من اللائحة التنفيذية الخاصة بنظام التحكيم أنه ''في المنازعات التي تكون جهة حكومية طرفاً فيها مع آخرين ورأت اللجوء إلى التحكيم، يجب على هذه الجهة إعداد مذكرة بشأن التحكيم في النزاع مبيناً فيها موضوعه ومبررات التحكيم وأسماء الخصوم لرفعها لرئيس مجلس الوزراء للنظر في الموافقة على التحكيم ويجوز بقرار مسبق من رئيس مجلس الوزراء أن يرخص لهيئة حكومية في عقد معين بإنهاء المنازعات الناشئة عن طريق التحكيم، وفي جميع الحالات يتم إخطار مجلس الوزراء بالأحكام التي تصدر فيها''. وبذلك لا يجوز للهيئات الحكومية اللجوء إلى التحكيم للفصل في المنازعات الناشئة عن العقود الإدارية، إلا بعد الحصول على موافقة مجلس الوزراء سواء الموافقة على شرط التحكيم أو اللجوء إلى التحكيم بعد نشوء النزاع ويكون اختصاص النظر في النزاع من صميم عمل ديوان المظالم.
ونظرا لأهمية العقود الإدارية وتعددها، بل تنوعها وكذلك كثرة التعاقدات التي تبرمها الدولة مع الشركات الأجنبية سواء أكانت محلية أم دولية، ولأهمية هذه العقود بالنظر إلى المشروعات التي يتم تنفيذها ورغبة الدولة في الاستفادة من الخبرات الدولية حال تنفيذ المشروعات الوطنية الكبرى أو ذات التقنية العالية، وما تتطلبه الشركات العالمية من حلِّ المنازعات عن طريق التحكيم وليس القضاء، فإنه من الضرورة إعادة النظر في أمر قصر الموافقة على التحكيم في العقود الإدارية على موافقة مجلس الوزراء بعدما تحققت أهمية الدور الكبير للتحكيم في الفصل في هذه المنازعات، ولا سيما بعد أن صار تنظيم هذا الأمر على قدرٍ كبير من المهنية بموجب أنظمة التحكيم وهيئاته ذات الشخصية المعنوية التي تختص بنظر المنازعات وبعد أن أضحت قرارات التحكيم مُلزمة للدول.
ويكمن الحل الأمثل لهذه المشكلة في تعديل نظام التحكيم الحالي ليتم النص على إجازة الاتفاق على التحكيم في العقود الإدارية عن طريق منح الجهات الحكومية حق اللجوء إلى التحكيم دون الحاجة إلى الحصول على أية موافقة قد تطيل أمد النزاع وتنفّر المستثمرين، وذلك عن طريق إدراج شرط التحكيم بالعقود الإدارية حال إعدادها وأن يُنص على أهم الأحكام التي تجب مراعاتها حال الفصل في النزاع بطريق التحكيم وأهمها القانون واجب التطبيق على النزاع الذي ستنظره هيئة التحكيم.
وإلى أن يتم تعديل نظام التحكيم وفقاً لما ذُكر، فإنه يمكن النص في أنظمة الجهات الحكومية حال تعديلها على أحقيتها في اللجوء إلى التحكيم، وذلك على النحو الذي تم النص عليه في نظام الاستثمار التعديني الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/47 وتاريخ 20/08/1425هـ، حيث ورد في مادته الثامنة والخمسين أنه ''يجوز الاتفاق على تسوية أي نزاع أو خلاف ينشأ بين مرخص له والوزارة عن طريق التحكيم وفقاً لأحكام نظام التحكيم...''، كما ورد هذا الاستثناء أيضاً مُضمناً في المادة الثالثة عشرة من نظام الكهرباء الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/56 وتاريخ 20/10/1426هـ، وبذلك يجوز تسوية النزاع في الحالتين السابقتين عن طريق التحكيم من دون الحصول على موافقة مجلس الوزراء.
كما يُعد أيضاً من الحلول المقترحة لهذه المشكلة إعمال حق مجلس الوزراء في أن يرخص لأي جهة إدارية في اللجوء إلى التحكيم، إذ أعطت المادة الثالثة من نظام التحكيم الحق لمجلس الوزراء في تعديل حكم هذه المادة، فللمجلس أن يعطي جهة أو بعض الجهات الإدارية الإذن باللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية مباشرة دون الحصول على الموافقة الأولية من رئيس مجلس الوزراء، ويتم هذا بموجب التصويت وفقاً لنظام مجلس الوزراء، وذلك على النحو الوارد في المادة الثالثة سابقة الذكر.
وبناءً على ذلك كله، ولدفع عجلة التنمية الاقتصادية بوتيرة متسارعة والبعد عن أية بيرقراطية قد تعوق حركة الاستثمار، فإنه لو تمت مثل هذه التعديلات لأصبح التحكيم خياراً مقبولاً ومفضلاً لدى كل من المستثمرين المحليين والأجانب، وأزال الكثير من المخاوف الناشئة عن إطالة أمد النزاع وإعادة الحقوق لأصحابها.