«إسراء» تصدر إطار عمل لمقاصد الشريعة وكيفية توظيفها في المصرفية الإسلامية
أصدرت الأكاديمية العالمية للبحوث الشرعية (إسراء) إطار عمل توضح فيه مقاصد الشريعة وعلاقتها بصناعة التمويل الإسلامي. تعرضت فيها لمفهوم مقاصد الشريعة ومدى إسهامه في الإجابة عن أسئلة تتعلق بالعديد من القضايا الاقتصادية المعاصرة، حسبما أكده البروفيسور أشرف وجدي دسوقي، والبروفيسور سعيد بوهراوة.
وأوضح هذا الإطار أن الفقهاء اتفقوا على أن المقاصد الشرعية هي جلب المصالح لكل البشر ودفع الفاسد عنهم. ومن جانبه عرّف الدكتور عبد الحميد الغزالي المقاصد الشرعية مشدداً على اهتمام المفهوم بحماية خمسة أشياء، مشيراً إلى أن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. وكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وبالتالي كل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة.
وفيما يتعلق بالمقاصد الشرعية وصناعة التمويل الإسلامي يشير إلى أن هناك سببين لوضع المقاصد المناسبة للمؤسسة المالية الإسلامية: الأول أن تلك المقاصد ستكون عاملاً مساعداً للمديرين وواضعي سياسات المؤسسة عند صياغة أهداف وسياسات المؤسسة.
السبب الآخر هو أن تلك المقاصد تعتبر بمنزلة مؤشر لمعرفة إذا ما كانت مؤسسة ما تسير على أسس الشريعة الإسلامية أم لا.
ومن أهم التحديات التي تواجهها المؤسسات المالية الإسلامية حالياً أن تتمكن من تقديم منتجات وخدمات مالية تتفق مع الشريعة الإسلامية وفي الوقت نفسه تتمكن من المنافسة مع المنتجات المالية الأخرى وتحقق أرباحاً على المدى الطويل.
وتصنف المقاصد الشرعية في التمويل الإسلامي تحت المقاصد الخاصة، إلا أن هناك جانباً يتعلق بالمقاصد العامة، حيث إن تلك الصناعة المالية تهدف إلى حفظ واحدة من الضروريات الخمس وهي حفظ المال، وهي الضرورة التي تتقاطع مع الضروريات الأخرى، ولا سيما حفظ الدين. ومن ثم بات من الضروري أن تخضع مقاصد حفظ المال للمقاصد الشرعية لأهداف التمويل الإسلامي.
أبعاد تحقيق حفظ المال
لا خلاف بين الفقهاء على أن حفظ المال من أهم مبادئ الشريعة الإسلامية. وبطبيعة الحال فإن الشريعة التي تهدف إلى حفظ وصيانة النظام الاجتماعي تولي عناية فائقة للحفاظ على المال. وهناك العديد من التشريعات التي تكفل هذا الأمر سواء من الناحية المادية أو الاجتماعية. ويؤكد الفقهاء أن حفظ المال يتحقق من خلال خمسة أبعاد على الأقل:
البعد الأول: حفظ المال من خلال حماية الملكية
تعتبر الملكية من خلال التملك الحصري من أهم مبادئ الحضارة الإنسانية. وأدرك الإسلام رغبة الإنسان الطبيعية في التملك، وذلك بوضع معايير واضحة: كيف يتم تملك واستخدام وحفظ المال؟ والتملك يعني إدراك الشريعة وحاجة الناس إلى استخدام عين أو منفعة بالاستفادة منها مباشرة أو استبدالها أو التبرع بها لشخص آخر. ووفقا لابن عاشور فإن الشريعة عرفت العوامل التالية كوسيلة وحيدة للتملك: الملكية الحصرية لشيء لا ينازع فيه آخرون، أو العمل في قطعة أرض مع المالك مثل المغارسة، أو الحصول عليها من مالكها سواء بالتبادل أو العوض بوسائل شرعية مثل الميراث والتبرع. وكما أقر الإسلام التملك فإنه قد كفل حمايتها فحرم أكل الأموال بالباطل.
البعد الثاني: حفظ المال من خلال التملك والتطوير
فيها يعطي مجهود الشخص حقاً حصرياً لتملكه أصلا ما. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ''من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق''. ويرى الفقهاء أنه إذا كان حفظ المال يعتبر مقصداً أسمى في الشريعة الإسلامية، فإن تملكه يجب أن يكون سابقاً على الحفاظ عليه. وبالنسبة للجزئية المتعلقة بالتطوير والتنمية التي تلي التملك فإنها تفهم من تدبر فلسفة الزكاة. وما هذا الركن إلا دعوة لتنمية المال، وعلى سبيل المثال من خلال الاستثمار كي تستمر الأصول في النمو. وفي الحديث: ''اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة''.
البعد الثالث هو حفظ المال من التلف
دعت الشريعة إلى ضرورة الحفاظ على المال من التلف والضرر، وذلك من خلال محورين: الأول حماية المال من المخاطر التي قد تضر به، والثاني منع حدوث الضرر من خلال عدم استخدام المال في أغراض غير نافعة. وتعتبر آية الدَين تعبيراً عن مفهوم حماية المال من المخاطر حيث تدعو لتسجيل الديون والمعاملات المالية.
وقال تعالى: ''وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة''. وتنطبق الآية على العديد من التعاملات المالية المعاصرة، فما لم يحسن إدارة مخاطر استثمار ما فإن النتائج تكون كارثية بطريقة قد تهدد اقتصاد دولة أو إقليم. وتشدد الآية على أن إدارة المخاطر أمر غاية في الأهمية، كما تؤكد على ضرورة اتخاذ خطوات استراتيجية للتعامل مع المخاطر بكفاءة.
البعد الرابع حفظ المال من خلال الرواج
يعتبر تسهيل رواج المال من مقاصد الشريعة. ويقصد بالرواج انتقال المال في مجتمع ما بين أكبر عدد دون التسبب في أية أضرار لمن يمتلك المال بطريقة شرعية.
وحرم الشرع الاحتكار الذي يجعل سلعاً ما في أيدي أشخاص بأعينهم، وكذلك حرم تداول الأموال بين طبقة دون الأخرى.
ويعتبر رواج المال من أهم عناصر حفظه حيث يضمن وجود مجتمع متوازن ومتناسق ويشهد تطوراً قوياً للاقتصاد. وللوصول لهذا فإن الشريعة وضعت صيغة توازن بين الاحتياجات الطبيعية الشخصية والمشاركة العادلة في المجتمع ككل من خلال نصيب معقول من المال. ويمكن النظر إلى تلك الصيغة من خلال مستويين: أثناء حياة المالك وبعد موته، وتتضمن هذه المعايير: معايير مالية محددة مسبقاً مثل الزكاة وزكاة الفطر وهي توفر دخلاً دائماً للطبقات الأدنى. وهناك الصيغ الطوعية مثل الصدقات والهبات والوصايا والهدايا وهي تعمل على تأكيد رواج المال بطريقة صحية. ومنها منع كل أنواع الاحتكار التي تجعل الثروات في أيدي عدد قليل من الأشخاص على حساب الغالبية.
البعد الخامس حفظ المال من خلال حفظ قيمته
لعل التأكيد على رواج المال يعكس الحاجة إلى حماية وحفظ قيمة هذا المال. واهتم الإسلام أيما اهتمام بحفظ المال من خلال حفظ قيمته والحركة الطبيعية لأسعار السلع. يقول الله تعالى ''ولا تبخسوا الناس أشياءهم'' ويشير لفظ ''بخس'' إلى التقليل من القيمة أو الغش والخديعة في الكيل.
تطبيقات مقاصد الشريعة في صناعة التمويل الإسلامي
يستلزم فهم مقاصد الشريعة أن تخضع المؤسسات المالية الإسلامية للشريعة الإسلامية. وذلك من خلال وضع كل التعاملات التي تقوم بها تلك المؤسسات في الإطار الأخلاقي الذي تحدده الشريعة. وعلى سبيل المثال فإن الشريعة تحمي حقوق الفرد في التملك إلا أن تلك الحقوق تحكمها قواعد وأخلاقيات تمت صياغتها لحماية حقوق المجتمع.
ولا يتوقع أن تعمل المؤسسات المالية الإسلامية بمعزل عن المجتمع فعليها أن تحقق التوازن بين حقوق ومسؤوليات كل من الفرد والمجتمع.
ويمكن فهم فلسفة تلك المؤسسات من خلال المقاصد الكلية لنظام الاقتصاد الإسلامي باعتبارها ضمن مقاصد الشريعة. وتعكس مبادئ مقاصد الشريعة الأهمية التي وضعها الإسلام للاهتمامات العامة وليس اهتمامات الفرد في المقام الأول. كما أنها تضع إطار عمل لصناعة القرار، وآلية للتكيف مع التغيير، خاصة بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية.
تطبيقات المجال الاقتصادي
تعود تطبيقات مقاصد الشريعة في المجال الاقتصادي إلى المقصد الكلي وهو حفظ المال. المقصد الأول هو وجوب العمل والإنتاج وكسب الرزق وهو ضروري لحفظ المال من جانب الوجود.
وهناك مقصد ثانٍ وهو قاعدة الخراج بالضمان. ومقصد وجوب استثمار المال وتنميته، ومقصد تحمل المالك مخاطر الملك، وأخيراً مقصد تحمل رب المال مخاطر الاستثمار.
تطبيقات مجال العمل المصرفي
يعتبر عقد المضاربة في البنوك الإسلامية بمنزلة أبرز مثال على تطبيقات مقاصد الشريعة في العمل المصرفي. إذ إن هذا العقد يستند في معظم جوانبه إلى رعاية مقاصد الشريعة وليس على الأدلة الجزئية في كل من جوانب هذا التطبيق.
ومن أمثلة الاعتماد على المقاصد العامة والخاصة في بعض مسائل عقد المضاربة
العلم برأسمال المضاربة، ودخول وخروج مودعين في وعاء المضاربة، وتوزيع ربح المضاربة حسب نسب الودائع، تعويض الدائن عن غرامات التأخير دون عذر مقبول، وفسخ عقد الإجارة التمويلية، والإجارة المنتهية بالتمليك، والتصرف في بضاعة قبل تسلمها.
ومن أهم نتائج تطبيق المقاصد في المعاملات المالية تحريم كل مشروع أو تصرف اقتصادي أو مالي يؤدي إلى فساد الإنسان أو نفسه أو بيئته الطبيعية أو الاجتماعية. وكذلك يؤدي هذا التطبيق إلى تخطيط سليم للاقتصاد والتنمية يعتمد على تقديم الأولى فالأولى. ومن النتائج تقديم مشروعات ضرورية للنفس على غيرها من المقاصد الشرعية.