سحر مادوف جعل المستثمرين شديدي الثقة أو الجشع والمنظمين خائفين جدا
ثلاثة أيام هي الفترة التي كادت فيها خطة احتيال بيرنارد مادوف لمبلغ 65 مليار دولار تنهار في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005. فقد انهار صندوق تحوّط بايو الممتاز وكان المستثمرون الذين أصبحوا يشعرون بالقلق يسحبون أموالهم من شركات الاستثمار مثل شركة مادوف بأعداد كبيرة. وكان يدين بمبلغ 105 ملايين دولار على شكل شيكات استرداد إلا أن حساب شركة الاستثمار المحتالة في بنك جي بي مورجان كان يحتوي على 13 مليون دولار فقط.
وكما توثق ديانا هنريك في كتابها الجديد، لم يتمكن مادوف من تغطية الفرق إلا عن طريق سحب المال من شركة السمسرة المشروعة التابعة له وعن طريق انتحال أصول العملاء للحصول على قرض بقيمة 95 مليون دولار. ثم سمح استثمار في الوقت المناسب من أحد العملاء لمادوف بالوقوف على قدميه وامتصاص مليارات الدولارات الإضافية من صناديق التحوط في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى ما يمكن أن يكون أكبر عملية احتيال استثمارية على الإطلاق.
ومع ذلك، لم تكن مشكلة التدفق النقدي هي الحادثة الوحيدة التي كادت تفضحه. ويكشف كتاب ''ساحر الأكاذيب'' الكثير من اللحظات التي كان يمكن فيها إيقاف مادوف. إلا أن مستثمريه كانوا شديدي الثقة به أو جشعين جداً بحيث لم يطرحوا الأسئلة الصحيحة وكان المنظمون الأمريكيون خائفين جداً وغير منظمين للغاية.
وفي إحدى اللحظات قبل أشهر فقط من الأزمة النقدية لمادوف عام 2005، طلبت هيئة الأوراق المالية الأمريكية- بعد أن تلقت معلومة من محلل متشكك- من رئيس بورصة ناسداك السابق قائمة الحسابات التي يستخدمها لتداول الأوراق المالية والخيارات لشركة الاستثمار. إلا أن مادوف لم يكن قد قام بأي تداول لشركة الاستثمار منذ عقود. لذا، كما تكتب هنريك، ''كان مادوف يراهن رهانات كبيرة...'' وقام ببساطة بتشكيل قائمة من ست صفحات من الكيانات المالية.
وكتبت هيئة الأوراق المالية الأمريكية رسائل إلى اثنين من الأطراف المقابلة المزعومة المدرجة في القائمة ولكنها لم ترسلها قط. وعلى الرغم من الاجتماع المباشر مع مادوف الذي ضبطه فيه المنظمون يدلي بأكاذيب واضحة عن تداول الخيارات، إلا أن الهيئة خلصت إلى أنه ليس هناك دليل على الاحتيال وأنهت التحقيق بسرعة.
وبعد مقابلة العديد من محققي الهيئة، تستنتج هنريك: ''كانت الكذبة كبيرة جدا بحيث لا تتناسب مع مخيلة الهيئة المحدودة.''
وتوضح أبحاثها واسعة النطاق أن تجاهل مادوف الصارخ للحدود الأخلاقية بدأ في وقت مبكر. فبعد عامين فقط من إنشاء شركة السمسرة، وضع أموال العملاء في أسهم جديدة في انتهاك للقواعد التي تتطلب أن تكون الاستثمارات ''مناسبة''.
وحين تحولت السوق عام 1962 وانخفضت قيمة الإصدارات الجديدة، قام بتغطية الأمر بدلا من الاعتراف، واقترض المال من والد زوجته لإعادة شراء الاستثمارات سراً. وكان هذا نمطاً تكرر حين سار مخطط الاحتيال بقوة بعد ذلك بعدة عقود.
ويعتبر كتاب ''ساحر الأكاذيب''، المقنع والمدروس جيدا، رواية رائعة تجمع معاً الكثير من المعلومات التي ظهرت منذ اعتراف مادوف في كانون الأول ( ديسمبر) 2008. وهو ملخص مسل بالنسبة للقراء الذين لا يعرفون الكثير عن فضيحة مادوف. ولكن في النهاية يتبين أن الكتاب غير مرض على عدة مستويات.
فعلى الرغم من المقابلات المباشرة العديدة التي أجرتها مع بطل الرواية، لم تتمكن هنريك من تحديد تاريخ دقيق لبدء الاحتيال- أصر مادوف أنه كان يعمل بشكل مشروع حتى أوائل التسعينيات، في حين تعتقد بعض الهيئات أن الأكاذيب بدأت في أوائل السبعينيات. وتوافق المؤلفة على السنوات التي أعقبت مباشرة انهيار سوق الأسهم عام 1987 حين بدأ بعض كبار مؤيديه بسحب أموالهم، ولكنها لا تملك سوى أدلة ظرفية على استنتاجها هذا.
ويعتبر الكتاب أيضاً شهادة على مخاطر تأليف كتاب جدي عن حدث لا يزال يتكشف. فعلى مدى العامين الماضيين، ظهرت الكثير من التفاصيل عن قضية مادوف بحيث أن القليل جداً مما ورد فيه فقط يبدو جديداً حقاً. وقد أجرت هنريك مقابلات مستفيضة مع مادوف إلا أن إجاباته كانت غالباً سطحية ومضللة- ليس هذا مستغرباً من كاذب بارع- ولا تزال شخصيته مراوغة. وفي حين كانت هنريك أول من طرح الأسئلة، إلا أن صحيفة ''نيويورك تايمز ''و''فاينانشيال تايمز'' أجرتا لاحقاً مقابلات مع مادوف وسبقت أعدادها الكتاب في الظهور في أكشاك بيع الصحف.
وفي الوقت نفسه، تعيق التحقيقات والدعاوى القضائية المستمرة المرتبطة بالقضية محاولات هنريك للإجابة عن السؤال المهم المتبقي: هل هناك شخص آخر يقع عليه اللوم؟ وتطرح حجة واضحة لأسباب كون أقرب أقارب مادوف، وأبنائه وزوجته وشقيقه، ربما كانوا ضحاياه بدلا من المتآمرين معه، ولكنها تقلل من أهمية استنتاجها لأن التحقيقات لم تنته بعد. وبالمثل، ربما تسلط الدعاوى القضائية المستمرة التي يرفعها وكيل إشهار الإفلاس المسؤول عن استرداد أموال مستثمري مادوف الضوء على ما تعرفه الأطراف المقابلة الأوروبية وفي ''وول ستريت'' لمادوف- إن كانت تسلط الضوء على شيء ما. ولكن سيستغرق الأمر سنوات لحل هذه القضايا.
بدون وجود إجابات محددة، ليس أمام هنريك سوى التكهن بالأسباب التي جعلت مادوف قادراً على أخذ الكثير جدا لفترة طويلة للغاية. وإجابتها ركيكة. ''لم يكن مادوف وحشيا بشكل غير إنساني. بل كان إنساناً وحشياً... تماماً مثلنا- ولكن أكثر قليلا.'' وبالنسبة لها، بدلاً من أن يكون مميزاً، فإن مادوف هو مجرد شخص في صف طويل من المحتالين الذين سيستمرون طالما استمر المستثمرون بالحلم بالحصول على عوائد خالية من المخاطر. وهو ليس استنتاجاً مطمئناً.