تولستوي والكرسي البنفسجيّ!

على كرسيّ البروكاد البنفسجي جلست نينا سانكوفيتش Nina Sankovitch في تشرين الأول (أكتوبر) 2008، لتبدأ رحلة قراءة كتاب خلال عام كامل بمعدل كتاب لكلّ يوم.
من نينا ولماذا هذا القرار؟
نينا محامية أمريكية وأمّ لأربعة أبناء فقدت أختها بعد صراع قصير مع سرطان نادر، ومن خلال القراءة والغرق في الكتب حاولت التخلص من حزنها شيئاً فشيئاً.
هذا التحدي لم يولد مباشرة بعد موت أخت سانكوفيتش، تقول في لقاء أجري معها في جريدة "نيويورك تايمز" إنّها حاولت عيش حياتين بعد وفاة أختها.
كل الأنشطة التي كانت تؤديها بصحبتها ودونها أصبحت على جدول أعمالها اليومية، تبرعت لمساعدة الآخرين ولعبت التنس ودرّست صفوف الفنون للأطفال. لكن كلّ ذلك لم يساعدها في إيجاد البهجة المفقودة، حتى قررت ذات يوم العودة لهواية قديمة ومحببة لديها ولدى أختها، ألا وهي القراءة.
خلال الفترة الزمنية التي حددتها نينا لنفسها ستقرأ كل يوم كتاباً وستكتب عنه في مدونة مخصصة، أي أنّ الجهد في هذا الالتزام مضاعف، ليس لكونها ستقرأ وحسب، بل ستكتب عن قراءتها هذه فيما يشبه المذكرات المكشوفة ودعوة عامة للمشاركة من كلّ زوار المدونة.
في الكتب وجدت الهروب والإجابة وكونت روابط روحية مع الكتّاب والشخصيات، هذه الروابط خففت من شعور الفقد الذي سيطر عليها لوقت طويل وأصابها برعب من تسارع الحياة دون تحقيق هدف أو نجاح ملموس.
ما أدهشني في هذه التجربة ليس التصميم فيها فقط، بل مساندة عائلة سانكوفيتش لها خلال هذه الرحلة؛ إذ اتفقت مع زوجها أن تحصل على إجازة من العمل خلال العام والبقاء والتركيز على ذلك. من جهة أخرى، كانت العائلة تساعد في الأعمال اليومية المنزلية ويمنحونها الوقت والمساحة المناسبين للقراءة.
تجربة نينا لم تكن تجربة فردية أو فكرة مجنونة بلا تبعات ايجابية، فبعد انتهاء العام في تشرين الأول (أكتوبر) 2009 قررت جمع حصيلة هذه القراءات ووضعها في كتاب عنونته بـTolstoy and The Purple Chair.
اقتنيت الكتاب بنسخته الإلكترونية، لكنني لم أبدأ بقراءته بعد، ما زلت مبهورة بالمدونة الخاصة بالكاتبة وتجاوب القراء والمهتمين من كل بقاع العالم.
البعض كان يقترح عليها كتباً معينة والآخر يهديها والمكتبات العامة تزودها بالنسخ التي ترك عليها القراء بصماتهم.
في لقاءات مع الكاتبة استمعت إليها وشاهدتها وهي تصف التجربة بشغف غير مسبوق، وطوّعت من خلالها خريطة يومها لخدمة هذا التحدي.
حتى زياراتها للمكتبات الخاصة والعامة تغيرت، أصبحت تقف بجانب رفوف لم تقف بجانبها من قبل وتقرأ في كلّ شيء وعن كل شيء.
تقول إنها ما إن تضع أبناءها في باص المدرسة صباحا تحصل على ست ساعات تقسمها بين أربع ساعات للقراءة وساعتين لكتابة ملاحظاتها حول كتاب اليوم السابق، فهي تنجز كتابا كل يوم وتترك القراءة تختمر في رأسها لليوم التالي وتدون عنه وهكذا.
بسرعة قراءة (سبعين صفحة لكل ساعة) تتمكن نينا من إنهاء كتاب من الحجم المتوسط؛ لذلك قررت اختيار كتب بعدد صفحات بين 200 و300 صفحة وكلها من الكتب الجديدة - جديدة لأنها لم تقرأها من قبل وليست جديدة النشر -.
هذا الخيار مكّنها من الالتزام في الجزء الأكبر من الوقت، بينما فشلت في بعض الأيام من مقاومة الكتب التي تزيد صفحاتها عن العدد المحددّ، وامتدت ساعات القراءة حتى وقت متأخر من المساء ومن خلال وسائط متعددة.
سانكوفيتش أنهت كتابها الأول ولو سُئلت قبل سنوات عن فكرة كتابته ستضحك منها وتستبعدها، على الرغم من أنها تأتي من أسرة تمجد القراءة وهي نفسها قارئة نهمة وإن سرقتها الانشغالات من ذلك.
والدها جراح زرع بداخلها حب الكتب، ووالدتها أستاذة للغة الفرنسية في إحدى الجامعات الأمريكية وأختها الوسطى ناتاشا أستاذة في الأدب المقارن، بينما كانت آن ماري التي حرّض موتها كلّ هذا مؤرخة فنية؛ لذلك لم تكن الرفوف المكتظة بالكتب شيئاً مستحدثاً عند هذه الأسرة.
عندما سُئل زوجها عن التغيير الذي حدث في المنزل جرّاء التزام نينا بهذه القراءات؟.. أجاب بأنّ وجبات العشاء العائلية أصبحت أكثر متعة، يأتي الأبناء وهو بأخبار يومهم ويقتسمون مع نينا حكايات كتبها السحرية.
مبادرة سانكوفيتش ومشاركتنا بها تذكرنا بالأوقات الضائعة، وأقول ضائعة لأننا لا نقضيها في القراءة وسيلة التعلم والتواصل وتجاوز المشكلات.
في لقاء أجري مع نينا على شاشة الـ"سي إن إن" الأمريكية سألتها المذيعة: ما إذا كانت تجاوزت الفقد الذي حصل؟.. وأجابتها: لا، لكنّ الكتب تعرفنا على الفقد الذي يعانيه كثير من البشر ونجد في صبرهم وحكاياتهم السلوى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي