الدجالون يقودوننا إلى سنين عجاف
لا يكاد يمر يوم دون أن يكون هناك تحسُّر علني على ندرة القيادة في الديمقراطيات الغربية. ويتساءل كثير من الخبراء بأسف: أين أبناء جيلنا الذين يتمتعون بمستوى تشرشل وكينيدي وديجول وأديناور؟ وباعتباري كاتب سيرة تشرشل، أجيب عن هذا السؤال جزئيا بالقول: كونوا ممتنين؛ لأنه على الرغم من الأوقات المضطربة التي يتسم بها عصرنا، إلا أن الوضع ليس فظيعا إلى درجة المطالبة بأن يُبعَث تشرشل. فالمحاربون غير مؤهلين عادة لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية. فقد كان القائد العظيم ويلنجتون رئيس وزراء فاشلا (قائد قوات الحلفاء الذي هزم نابليون في معركة ووترلو عام 1815)، في حين كانت استجابة تشرشل للإضراب العام في بريطانيا عام 1926 عبارة عن مسرحية مثيرة للانقسام.
ولا بد أن كثيرا من القادة المعاصرين يعانون نوبات من الشفقة على الذات؛ لكونهم يتولون زمام الأمور في حقبة نجد فيها أن انكشاف حدود السلطة يجعل المنصب الأعلى يبدو وكأنه غير مجزٍ. فالمشاكل الاقتصادية التي نعيشها اليوم ضخمة وعصية على الحل. قارن ذلك مع تجربة التسعينيات حين كان جون ميجور رئيسا للوزراء. فقد واجه ميجور، الذي كان رئيس وزراء غير كفء، كما جوردون براون، كثيرا من المواقف المحرجة والمهينة - الركود الاقتصادي، والطرد من آلية سعر الصرف الأوروبية، وحروب البلقان، واقتتال حزب المحافظين بخصوص أوروبا. لكن من خلال تفهم الماضي بعد حدوثه، لم يكن أي من هذه الأحداث، حتى ولا من بعيد، يشكل خطرا على بريطانيا بقدر الخطر المتمثل في الأحداث الأخيرة. فعيوب ميجور لم تكن مهمة كثيرا - في ولايته لم تعان بريطانيا من أية أزمة شاملة تؤدي إلى تغييرات في قواعد اللعبة على غرار الانهيار المصرفي عام 2008 وما أعقب ذلك.
ويمكن قول الشيء نفسه عن رئاسة بيل كلينتون للولايات المتحدة. فعلى الرغم من كثير من الأحداث الدرامية - التي كان بعضها من صنع تفكيره الذكوري - لم يمر باختبارات حاسمة مثل روزفلت وكينيدي وجونسون، أو كما يمر الرئيس باراك أوباما اليوم باختبار حاسم. كذلك بعض زعماء البلدان محظوظون: صنعت مارجريت تاتشر الكثير من حظوظها، إلا أن وزير ماليتها انتفع كذلك من الطفرة النفطية في بحر الشمال.
إن القول: ''حين تأتي الساعة سيأتي الرجل المناسب'' قول مبتذل أحمق. فالتاريخ حافل بالأحداث الدرامية التي جعلت الأمم تنظر بترقب إلى الباب، لكنها لم تر سوى شخص لا يزيد حجما على الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يدخل منه. إلا أن القادة الغربيين اليوم يواجهون صعوبات لا يمكن على الإطلاق عزوها إلى عدم كفاءتهم. ومهمتهم الأساسية هي إرضاء الناخبين للقبول بما هو أقل من كل شيء كانوا يحظون به في الماضي. ويبدو أن من الخطأ الافتراض أن مجرد اللجوء إلى طريقة تشرشل الخطابية أو دهاء روزفلت فقط قد يحقق هذا.
أنا معجب بكاتب العمود ماثيو باريس، وأتفق معه عادة في كثير من الأمور، لكن قبل أسبوعين عبّر عن وجهة نظر تبدو مفرطة في التفاؤل. فهو يعتقد أن من الخطأ الافتراض أن تتم معاقبة رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، انتخابيا إذا انزلق الاقتصاد البريطاني ثانية إلى الركود. ويقول باريس إن الناخبين ناضجون بما فيه الكفاية ليدركوا أن هذا سيكون خطأ قوى عالمية خارجة عن سيطرة الحكومة.
أتساءل عما إذا كانت هذه العقلانية هي القاعدة بين الشعوب البريطانية والأمريكية والأوروبية. فمجتمعاتنا تعتز بالشعور الجماعي بالاستحقاق. وقد أصبحنا أيضا متشبثين بالمبدأ الذي يروج له ملايين المحامين ويحققون الربح منه، ومفاده أن في كل مصيبة لا بد من تحميل اللوم على شخص ما.
في خطاب ألقاه أخيرا، قال ميرفن كينج، محافظ بنك إنجلترا: إن بريطانيا في منتصف ''سبع سنوات عجاف''. وحين ذكرت في الفترة الأخيرة أمام أحد مسؤولي البنك المركزي أن معظم البلدان الغربية تبدو أكثر احتمالا للبدء في 70 سنة من السنوات العجاف، دهشت للسرعة التي وافق بها. مع ذلك، إذا أخبر قادة اليوم شعوبهم بالحقيقة وأوضحوا السيناريوهات الأكثر ترجيحا وكآبة لمستقبلهم الاقتصادي، أراهن أن معظمهم سيتعرضون لهزيمة من قبل منافسيهم الذي يزعمون أن لديهم حلولا حاسمة - مثلما يمكن أن يحدث مع أوباما عام 2012. ويعترف الناخبون بالمفهوم النظري بأن الغرب يواجه تحديا من آسيا، لكن قلة منهم يفهمون حجم الاضطراب والتضحية اللازمتين لمواجهته.
وربما يقول بعضهم هنا: ''آه، لكن هذه هي مهمة القيادة الحقيقية - أن تجعل الناس يواجهون الحقائق غير المرغوب فيها. وفي هذا يخذلنا السياسيون''. لاحظ أن المستشارة أنجيلا ميركل والرئيس ساركوزي، من بين كثيرين غيرهما، يخفقان في تنفيذ ما عليهما من مسؤوليات عن طريق رفض الاعتراف بما تقوله الأسواق للعالم - بمعنى أن ديون كثير من بلدان منطقة اليورو هي إلى حد كبير غير قابلة للاسترداد. ويبدو أن أوباما غير قادر على تحقيق الالتحام العاطفي مع الشعب الأمريكي، كما فعل الرئيس السابق رونالد ريجان، عن طريق رواية قصة متفائلة.
كم من الأخبار السيئة التي يمكن أن يتحملها الناخبون الأمريكيون والأوروبيون المدللون؟ ليس كثيرا، كما أعتقد، في ظل غياب القنابل التي تتساقط حول رؤوسهم، بالمعنى المجازي أو الحرفي. وتشير الأدلة الأخيرة إلى أنه في أمريكا خصوصا يزدهر الدجالون في منابر دعايات الحملات الانتخابية، في حين ينأى الأشخاص الطيبون بأنفسهم عن الخداع والإذلال الضروريين لضمان المنصب العام. وما لم يصبح، أو إلى أن يصبح الناخبون أكثر عقلانية، أشك في أننا سنرى قادة أفضل بكثير - على الرغم من أنهم لن يكونوا أسوأ - من اليوم.
ولعل النقاد الذين يطالبون بأن يكون حكامنا أكثر بطولية يستذكرون تجربة اللورد أوكسبريدج، الرجل الثاني في القيادة في عهد ويلنجتون. فقد وضع أوكسبريدج نفسه على رأس فرقة فرسان هولندية بلجيكية في ووترلو، وأمر بالهجوم واندفع مائة ياردة تقريبا نحو الخط الفرنسي، قبل أن يجد مساعده العسكري نفسه مضطرا للإشارة إلى أنه ليس هناك أي فارس يتبع اندفاعه نحو المجد. وتراجع بسرعة بشكل مهين. وربما تقول ميركل إنها تعرف بالضبط كيف كان شعوره، ولا ترى فضلا في الذهاب إلى هناك.