خطاب بن برنانكي.. الجعبة خاوية والتكهنات تسقط

أشار برنانكي إلى أن اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح قررت تثبيت معدل الأموال الفدرالية، حتى منتصف 2013، أي استمرار معدلات الفائدة الصفرية لمدة سنتين إضافيتين. غير أن برنانكي يؤكد أن الاحتياطي الفدرالي لديه عدد من الأدوات التي يمكن استخدامها لتوفير المزيد من التحفيز النقدي للاقتصاد الأمريكي، وأن اللجنة الفدرالية سوف تستمر في تقييم الأوضاع الاقتصادية في ضوء المعلومات التي تتدفق من الاقتصاد.

حبس العالم أنفاسه يوم الجمعة الماضي 26 آب (أغسطس)، انتظارا لما سيسفر عنه خطاب بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في الاجتماع السنوي في قاعة جاكسون، في مقر الاحتياطي الفدرالي في كانساس سيتي في الولايات المتحدة. حيث يأتي الاجتماع في ظل ظروف اقتصادية غاية في الدقة، فالنمو الأوروبي يتراجع على نحو مثير للقلق، وكذلك جاءت معدلات النمو في النصف الأول من هذا العام في الولايات المتحدة مخيبة للآمال، في الوقت الذي فقد فيه الدين الأمريكي تصنيفه الممتاز وفقا لمؤسسة ستاندرد آند بورز لأول مرة في التاريخ، نتيجة لما حدث من مهاترات بين الحزبين الرئيسيين في البلاد حول رفع سقف الدين العام، واستجابة لهذه التطورات أخذت أسواق المال في العالم أجمع في التراجع على نحو مقلق يذكر العالم بما حدث في بدايات الأزمة الحالية في 2008.
سبقت الخطاب تكهنات عديدة عما سيحتويه، وإن كان معظمها يدور حول قرب انطلاق خطة التيسير الكمي الثالثة QE3، في الوقت الذي كانت تنتظر فيه الأسواق، بصفة خاصة سوق الذهب، نتائج الخطاب. بعد أن فرغ بن برنانكي من خطابه اكتشف العالم أن جعبة بن برنانكي كانت خاوية من كل ما تحدث عنه المراقبون، وسقطت جميع التكهنات حول مسار السياسة النقدية الأمريكية في الفترة القادمة.
لقد كان كل ما فعله برنانكي هو تشخيص الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة، وطبيعة التحديات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي حاليا، ورسم بعض ملامح السياسات اللازمة للتعامل مع بطء النمو الاقتصادي الأمريكي واستمرار معدلات البطالة مرتفعة، واختتم برنانكي خطابه بالإعلان عن أن الحل لم يعد في يديه، إذ إن ما في حوزة السياسات النقدية من أدوات للتعامل مع عقبات النمو والبطالة طويلة الأجل تعد محدودة جدا، ومن ثم يجب على أعضاء الكونجرس أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه الاقتصاد الأمريكي، وذلك بدعم الإنفاق لخلق المزيد من الوظائف. إلا أن برنانكي لم يغلق الباب أمام استخدام المزيد من أدوات السياسة النقدية لدعم النمو طويل الأجل في ظل مناخ من استقرار الأسعار. من هذا المنطلق نظر كثير من المراقبين إلى خطاب برنانكي بأنه جاء محبطا، كونه لم يقم بالإعلان عن أي خطط لتحفيز النمو الأمريكي في الفترة القادمة. غير أن الخطاب قد احتوى على الكثير من النقاط المهمة التي أريد أن ألفت انتباه قارئ ''الاقتصادية'' الكريم لها.
لقد كان موضوع الاجتماع السنوي هو النمو الاقتصادي في الأجل الطويل، وقد تحدث برنانكي عن صعوبة الوضع الذي يواجهه النمو الأمريكي حاليا، وأنه يدرك طبيعة التحديات التي تواجه التعافي من الكساد، إلا أنه أعلن في الوقت ذاته أنه متفاءل حول آفاق النمو الاقتصادي طويل الأجل في الولايات المتحدة، ذلك أن المحددات الأساسية لهذا النمو لا يبدو أنها تغيرت نتيجة الصدمات التي تعرض لها خلال السنوات الأربع الماضية. صحيح أن تأثير هذه الصدمات على الاقتصاد الأمريكي ربما يأخذ بعض الوقت، إلا أنه يتوقع أن يعود الاقتصاد الأمريكي لتحقيق المعدلات الطبيعية للنمو والتوظف في الأجل الطويل، وأكد على أن صانع السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة يواجه حاليا تحديان أساسيان، الأول هو مساعدة الاقتصاد الأمريكي لكي يتعافى من الأزمة والكساد الذي تلاها، والثاني هو أن يقوم بذلك بالشكل الذي يسمح للاقتصاد الأمريكي بأن يطلق قوى النمو الاقتصادي الكامنة في الأجل الطويل.
استعرض برنانكي أهم التطورات الإيجابية التي حققها الاقتصاد الأمريكي منذ بداية الأزمة، قائلا أنه منذ أن انطلقت الأزمة المالية في 2008، أدرك العالم خطورة ما يمكن أن تسببه من انهيار اقتصادي على المستوى العالمي، وأخذت حكومات العالم وبنوكه المركزية الرئيسة في العمل، وبقدر كبير من التنسيق، من أجل تفادي الانهيار الاقتصادي التام على المستوى الدولي، وقد تم ذلك في إطار سياسات نقدية ومالية تهدف إلى تحفيز الاقتصاد العالمي، وأنه بدون هذه الجهود فإن الاقتصاد العالمي كان سيتعرض لأضرار حادة لا يمكن تجنبها، ونتيجة لهذه الجهود حدث الكثير من التطورات الإيجابية في السنوات الأخيرة، إذا ما أخذنا مدى عمق الأزمة التي يمر بها العالم في الاعتبار.
فبشكل عام يحقق الاقتصاد العالمي معدلات نمو جيدة، بقيادة اقتصاديات الدول الناشئة. أما في الولايات المتحدة فإن الاقتصاد الأمريكي في حالة استعادة للنشاط، للربع التاسع على التوالي، على الرغم من أن هذا التعافي يعد ضعيفا بالمقاييس التاريخية. أما من الناحية المالية، فإن البنوك الأمريكية تعد في وضع أفضل الآن، وأنها تحتفظ برأس مال أكبر، كما تقدم ائتمانا أكثر، على الرغم من أنه ما زال محدودا بالنسبة لبعض القطاعات، بصفة خاصة المشروعات الصغيرة، أما الشركات التي تتوافر لها حرية الوصول إلى أسواق السندات فلا تجد صعوبة في الحصول على التمويل اللازم لها، بشروط مناسبة.
من ناحية أخرى تزايد الإنتاج الصناعي الأمريكي بنسبة 15 في المائة تقريبا مقارنة بأدنى مستوياته بعد الأزمة، كذلك تراجع العجز التجاري الأمريكي لأقل من مستوياته قبل الأزمة، بما يعكس تزايد تنافسية الاقتصاد الأمريكي في مجال تجارة السلع والخدمات، كما تزايدت معدلات الاستثمار، وتحسنت مستويات الإنتاجية في السنوات الأخيرة، بل وحدث تحول كبير في سلوك الأمريكيين الذين أصبحوا يدخرون أكثر حاليا ويقترضون بصورة أقل.
غير أن برنانكي يشير إلى أنه على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، إلا أن التعافي من الأزمة كان أقل مما كان مأمولا، خصوصا ما حققته الولايات المتحدة من ضعف في معدلات النمو في النصف الأول من هذا العام، وهو ما يشير إلى أن انحسار النشاط الاقتصادي ربما أصبح أعمق وأن التعافي من الأزمة كان ضعيفا. إذ لم يستعد الناتج الكلي مستويات ما قبل الأزمة، كما أن النمو الاقتصادي في معظمه لم يكن كافيا لتخفيض مستويات البطالة على نحو مستدام والتي ظلت تتأرجح أخيرا حول معدل 9 في المائة. ويعزو برنانكي ضعف النمو في النصف الأول من هذا العام إلى الارتفاع غير العادي في أسعار السلع التجارية وأثر زلزال اليابان على الناتج العالمي، ولذلك يتوقع برنانكي أن يتحسن معدل النمو في النصف الثاني من هذا العام، مع تراجع تأثير هذين العاملين.
ولكن لماذا كان التعافي من الأزمة بطيئا وغير مستقر؟ يشير برنانكي إلى أن الكساد الحالي كان حادا جدا سواء في الولايات المتحدة أو على المستوى العالمي، كما أنه كان مصحوبا بركود عميق في سوق المساكن وأزمة مالية تاريخية، وقد عمل هذين العاملين على تباطؤ عملية النمو في الاقتصاد الأمريكي، ويلفت برنانكي الانتباه إلى أنه من الناحية التاريخية لعب قطاع المساكن في الولايات المتحدة دورا أساسيا في التعافي من حالات الكساد التي مر بها الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن قطاع المساكن هذه المرة يواجه العديد من القيود، أهمها تراجع الائتمان الذي تحصل عليه شركات البناء وكذلك المشترين للمساكن، كما أن هناك قلقا من جانب كل من المقترضين والمقرضين حول اتجاهات أسعار المساكن جعل عملية بناء المساكن الجديدة عند مستويات تقل عن ثلث مستوياتها قبل الأزمة.
هذا المستوى المنخفض من عمليات البناء له آثار كبيرة، ليس فقط على البنائين، ولكن أيضا على الموردين للعديد من السلع والخدمات المرتبطة بالمساكن وعمليات بنائها. أكثر من ذلك فإن تراجع الائتمان كان أحد العوامل المقيدة لاستعادة قطاع المساكن لنشاطه، كذلك فإن ضعف قطاع المساكن كانت له من ناحية أخرى آثار معاكسة على أسواق المال وتدفق الائتمان في الاقتصاد، حيث ترتب على هذه التطورات في قطاع المساكن ارتفاع درجة الحذر عند تقديم الائتمان بصورة أكبر، وهو ما أدى إلى التأثير بصورة واضحة على الإنفاق الاستهلاكي، وقد أدى الضغط المالي إلى جر التعافي من الأزمة في الولايات المتحدة وفي الخارج إلى الوراء. بصفة خاصة عاد اشتداد حدة التقلبات في الأسواق وكذلك الرغبة في تجنب المخاطرة، من جانب المتعاملين، مرة أخرى في الأسواق استجابة للقلق حول الديون السيادية والتطورات المصاحبة للحالة المالية للولايات المتحدة، بما في ذلك خفض التصنيف الأخير للدين الأمريكي.
لقد أشارت نتائج النمو في النصف الأول من هذا العام إلى تحقيق الاقتصاد الأمريكي معدلات نمو تقل بشكل كبير عن توقعات اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح في الاحتياطي الفدرالي، ولكن اللجنة تتوقع أن يظل التعافي متواضعا ثم يتعزز بعد ذلك بمرور الوقت، وأن يكون النمو أقل في الفترة القادمة مما كان متوقعا، بينما تستمر معدلات التضخم والتوقعات التضخمية طويلة الأجل مستقرة حول معدل 2 في المائة، أو ربما أقل.
أما عن توجهات السياسة النقدية في الولايات المتحدة في الفترة القادمة فقد أشار برنانكي إلى أن اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح قد قررت تثبيت معدل الأموال الفدرالية، حتى منتصف 2013، أي استمرار معدلات الفائدة الصفرية لمدة سنتين إضافيتين. غير أن برنانكي يؤكد أن الاحتياطي الفدرالي لديه عدد من الأدوات التي يمكن استخدامها لتوفير المزيد من التحفيز النقدي للاقتصاد الأمريكي، وأن اللجنة الفدرالية سوف تستمر في تقييم الأوضاع الاقتصادية في ضوء المعلومات التي تتدفق من الاقتصاد، وسوف تستخدم أدواتها بالصورة المناسبة لتشجيع التعافي الاقتصادي في ظل استقرار الأسعار.
بالنسبة لآفاق النمو طويل الأجل لا يعتقد برنانكي أن النمو الكامن طويل الأجل للاقتصاد الأمريكي سيتأثر، إذا تم اتخاذ الإجراءات المناسبة لضمان هذه النتيجة. ففي الأجل المتوسط سيميل قطاع المساكن نحو الاستقرار وينمو مرة أخرى، من ناحية أخرى فإن أسواق المال والمؤسسات المالية عادت إلى حد كبير لأوضاعها الطبيعية، وأن قطاع الأعمال سيستمر في الاستثمار في رأس المال الجديد والتكنولوجيا الجديدة ويبني على ارتفاع الإنتاجية المحقق في السنوات الماضية، وأن التعافي الاقتصادي ربما يستغرق بعض الوقت، وربما يواجه بعض المشاكل في طريقه، وهو ما يقتضي أن تكون السلطات النقدية مستيقظة لمخاطر التعافي بما في ذلك المخاطر المالية. فما زال الاقتصاد الأمريكي يحتفظ بمزاياه التقليدية من الاعتماد على نظام السوق، وثقافة المبادرة، وأسواق رأس مال وعمل تتسم بالمرونة، وأن الولايات المتحدة ما زالت الرائدة تكنولوجيا في العالم وفيها الجامعات الرائدة في العالم في البحث العلمي، وكذلك مستوى إنفاق على البحوث والتطوير أكثر من أي دولة أخرى في العالم.
غير أن برنانكي يعدد التحديات التي تواجه النمو الاقتصادي طويل الأجل في الولايات المتحدة، والتي منها شيخوخة السكان، كما هو الحال في الكثير من الدول المتقدمة الأخرى، وأن المجتمع لا بد أن يتعود مع مرور الوقت على قوة عمل كبيرة في السن، كما أن نظام التعليم الأساسي، على الرغم من قوته، لا يخدم قطاعا عريضا من السكان بصورة مناسبة، وأن تكلفة الرعاية الصحية في أمريكا هي الأعلى عالميا، ولكن هذه المشكلات كانت قائمة من قبل الأزمة وسوف تستمر، وأن الولايات المتحدة تعمل على بذل الجهود للتعامل معها، ولتمكين الاقتصاد من أن ينمو على نحو يتوافق مع طاقاته الكامنة، ويؤكد برنانكي على أنه لا بد من العمل على دعم الاستقرار الاقتصادي والمالي، وتبني سياسات ضريبية وتجارية كفؤة، وتنمية مهارات قوة العمل، وتشجيع الاستثمار الإنتاجي في كل من القطاعين العام والخاص وتوفير الدعم المناسب للبحوث والتطوير وتبني التكنولوجيا الجديدة. لدعم النمو طويل الأجل فإن الاحتياطي الفدرالي سيتأكد من أن معدل التضخم منخفض ومستقر عبر الزمن، فمعدل التضخم المنخفض والمستقر يحسن من أداء الأسواق ويجعلها أكثر كفاءة في تخصيص الموارد، ويمكن الأفراد وقطاع الأعمال من التخطيط للمستقبل من دون أن يتأثروا بالتقلبات غير المتوقعة في المستوى العام للأسعار، كما سيستمر الاحتياطي الفدرالي في مراقبة الاستقرار المالي من منطلق دوره كمنظم مالي وكملجأ أخير للسيولة، ويؤكد برنانكي أن معظم السياسات الاقتصادية التي تدعم النمو الاقتصادي في الأجل الطويل تقع خارج نطاق البنك المركزي، ولذلك يختتم برنانكي حديثه ببعض الأفكار حول دور السياسة المالية الفدرالية في تشجيع الاستقرار الاقتصادي والنمو، مشيرا بأنه لكي يتحقق الاستقرار المالي، فإن السياسة المالية الأمريكية لا بد أن تصاغ في إطار يؤمن استقرار نسبة الدين إلى الناتج المحلي، أو أن يقللها بمرور الوقت، وأنه من دون تغيرات جوهرية في السياسة المالية فإن تمويل الإنفاق الحكومي سيخرج عن نطاق السيطرة وهو ما يرفع مخاطر التعرض لأضرار اقتصادية ومالية حادة. حيث سوف يتزايد العبء المالي مع تزايد أعداد الشيوخ من السكان وارتفاع تكلفة الرعاية الصحية، وهو ما يقتضي ضرورة اتخاذ قرارات حاسمة في هذا المجال، ومن وجهة نظر برنانكي فإن صانعي السياسة المالية يمكنهم أن يشجعوا الأداء الاقتصادي القوى من خلال تصميم برامج سياسات الضريبة وبرامج الإنفاق، بما يشجع الأفراد على العمل وعلى الادخار ويشجع الاستثمار في مهارات قوة العمل وتحفيز تكوين رأس المال الخاص وتشجيع البحث والتطوير وتوفير البنى التحتية المناسبة.
لم يفت برنانكي أن يذكر في آخر خطابه أنه ربما يكون أخطر التحديات للولايات المتحدة وهو أنها تحتاج إلى أن يتم اتخاذ القرارات المالية بصورة أفضل. فقد أدت المفاوضات التي تمت لرفع سقف الدين إلى اضطراب الأسواق المالية، وربما الاقتصاد، ومن الممكن أن يترتب على الأحداث المماثلة في المستقبل تهديد رغبة المستثمرين في أنحاء العالم في الاحتفاظ بالأصول المالية الأمريكية، أو رغبتهم في القيام باستثمار مباشر فيها لخلق الوظائف، ومن ثم فإن على صانعي السياسة المالية أن يضعوا أهدافا واضحة للميزانية وآليات لتحقيق هذه الأهداف، وقد اختتم برنانكي خطابه مشيرا إلى أن الاحتياطي الفدرالي سيقوم بكل ما يمكنه للمساعدة على استعادة معدلات النمو والتوظف في إطار من استقرار الأسعار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي