بعد 10 سنوات من 11 سبتمبر أين نحن الآن؟
حلت هذا الأسبوع الذكرى العاشرة لأحداث 11 سبتمبر عام 2001، اليوم الذي شهد هجوما انتحاريا منسقا بطائرات مدنية على مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطن. لقد استهدفت الهجمات مكمني قوة الإمبراطورية الأمريكية: الاقتصاد والجيش. وقدر عدد القتلى جراء تدمير مركز التجارة بثلاثة آلاف قتيل. وتفسر فرادة تنفيذ هذه العمليات حالة الذهول التي سادت كل زوايا الكرة الأرضية، ومطالبة الشعب الأمريكي الواسعة حكومته برد انتقامي سريع، حتى قبل تكشف هوية منفذي تلك العمليات ومن يقف وراءهم.
لقد فتحت هذه الحوادث حقبة جديدة في العلاقات الدولية، وأفسحت الطريق لإعادة تشكيل الخرائط السياسية والجغرافية لكثير من البلدان، فبعد أيام من الهجمات، وقبل أن يرفع الركام عن موضعه، طرحت الإدارة الأمريكية شعار ''عدالة بلا حدود''، وأعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش حربه ''على الإرهاب''. وتضمنت خطط هذه الحرب تغيير الحكومات التي تأوي ''الإرهابيين'' وتقدم لهم الدعم والتأييد.
وتماثلت في سياق تشخيص الخصوم والأعداء لغة الحديث بين أسامة بن لادن قائد القاعدة آنئذ، والرئيس الأمريكي جورج بوش حول تقسيم العالم إلى فسطاطين: الخير والشر. فقد اعتبر بن لادن صراع القاعدة مع الولايات المتحدة وحلفائها صراعا بين الخير والشر. وأطلق بوش تصريحه الشهير ''إن من ليس معنا في الحرب على الإرهاب فهو ضدنا''. وحدد محور الشر في العراق وإيران وكوريا الشمالية، لكن العراق هو البلد الذي استهدف بالعدوان والاحتلال ضمن هذا المحور.
وتحت ذريعة الحرب على الإرهاب وتجفيف منابعه، حرمت التنظيمات الإسلامية التي وصفت بالتطرف من التدفق المالي، ومن ضمنها منظمات المقاومة الفلسطينية وبعض حركات التحرر في العالم. وشهدت الولايات المتحدة والعالم عودة للمكارثية، التي سادت في مطلع الخمسينيات إثر اشتعال الحرب الباردة بين القطبين الرأسمالي والشيوعي. وفرضت في الداخل الأمريكي، حالة الطوارئ وعطلت الحقوق المدنية وتركت الأبواب مشروعة لسن قوانين مقيدة للحريات تحت لافتة مكافحة الإرهاب. وتعرض المسلمون المقيمون في الولايات المتحدة لحملة اضطهاد رسمية وشعبية شعواء، كما جرى تسعير حالة العداء مع العالم الإسلامي ووصم الإسلام ظلما وجورا بما ليس منه.
وعلى صعيد آخر، جرى حديث مكثف عن نوايا أمريكية في إشاعة قيم الحرية والديمقراطية في البلدان العربية، بادعاء أن من بين الأسباب التي أدت إلى إعصار سبتمبر هي حالة الاحتقان في المجتمعات العربية، جراء هيمنة أنظمة الاستبداد التي دعمت في السابق من قبل إدارات أمريكية مختلفة، وأن الولايات المتحدة حملت مسؤولية استمرارية الأنظمة الديكتاتورية في الحكم. ووفقا لهذه التصور، فإن حوادث سبتمبر تعبير عن بلوغ حالة الإحباط واليأس مرحلة خطيرة، أدت بالغاضبين إلى ارتكاب جريمتهم. وعلى هذا الأساس، فإن على الولايات المتحدة التوقف عن مناصرة أنظمة الاستبداد والعمل على إزاحتها عن الحكم وإشاعة الديمقراطية وروح التسامح ونبذ الكراهية.
وكان رأس ابن لادن وتنظيم القاعدة الذين أعلن مسؤوليته عن حوادث سبتمبر أهدافا أولى فيما عرف بالحرب على الإرهاب. وعلى هذا الطريق، تمت الإطاحة بنظام طالبان واحتلت أفغانستان. وأنجز ذلك على وجه السرعة بعد أسابيع قليلة من أحداث سبتمبر في بلد أنهكته الحروب.
في مراحل الحرب الأولى، لم تكن كلف الأمريكيين في الأرواح والمعدات عالية، لكنها كلفت الأفغان أضعاف عدد من قتلوا في نيويورك وواشنطن جراء عاصفة سبتمبر. لكن التطورات التي جرت على مسرح الحرب في الأعوام اللاحقة أحالت أفغانستان إلى جحيم حارق تحت أقدام الغزاة.
وكان الهجوم على العراق المحطة الثانية في ''الحرب الأمريكية على الإرهاب''. وإذا كانت الحرب على أفغانستان بدت مبررة، كون طالبان احتضنت بن لادن وتنظيم القاعدة، فإن أسباب الحرب على العراق لم تكن منطقية، واستندت إلى ذرائع تكشف بطلانها، في مقدمتها أن العراق يحتفظ بترسانة ضخمة من أسلحة الدمار الشامل، وأنه يقدم الدعم لتنظيم القاعدة. ونتج عن احتلال العراق، تفتيته إلى محاصصات وقسمة بين الإثنيات والطوائف، ومصادرة دولته الوطنية كيانا وهوية، ومضاعفة النفوذ الإيراني في أرض السواد.
وفي المحطات الأخرى ''في الحرب على الإرهاب'' شهدت الأراضي الفلسطينية هجوما شرسا نفذه رئيس الحكومة الإسرائيلية، أرييل شارون في الضفة الغربية وقطاع غزة إثر انتفاضة الأقصى. وتواصل لاحقا مع باراك وأولمرت ونتنياهو ومختلف الحكومات الإسرائيلية، حتى يومنا هذا.. وجرى احتجاز الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مقر إدارة السلطة في رام الله حتى استشهاده، وتم اغتيال عدد كبير من القيادات الفلسطينية في حماس والجهاد والشعبية، وفي مقدمتهم أبو علي مصطفى والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وعشرات آخرين، وقطعت الضفة الغربية إلى أوصال، وعزل قطاع غزة، وأقيم الجدار العازل، وحوصرت المخيمات والبلدات والمدن، وفرض حصار اقتصادي جائر على المناطق المحتلة، وجرى التوسع بشكل غير مسبوق في بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكان الموقف الأمريكي من انتصار حركة حماس في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية وحصدها عدداً كبيراً من المقاعد، وبالتالي تسلمها إدارة السلطة الفلسطينية، قد كشف زيف الادعاءات الأمريكية بأن الحرب على الإرهاب تستهدف الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية وإشاعة الديمقراطية. فمنذ الوهلة الأولى لإعلان نتائج الانتخابات النيابية في الضفة الغربية وقطاع غزة بحصد حماس أغلبية المقاعد، اتخذت الإدارتان ''الإسرائيلية'' والأمريكية موقفاً معاديا لحكومة السلطة الفلسطينية الجديدة، ومارستا عقوبات جماعية في حق الفلسطينيين، وفرض حصار شامل على قطاع غزة، بقي قائما حتى يومنا هذا.
اتضح للقاصي والداني أن الديمقراطية الأمريكية تعني الخضوع للابتزاز الأمريكي والصهيوني، وأن ما تفرزه صناديق الاقتراع لا يعني شيئاً بالنسبة لصانع القرار الأمريكي، إلا إذا تمخض عنها وصول عناصر موالية للعدوان. وكان العدوان على جنوب لبنان محطة أخرى في هذه الحرب، التي يخرج من رحمها مخاض الولادة لشرق أوسط جديد، وفقا لتصريحات كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، وكان التدمير مهولا والمقاومة ضارية. والهدف تحقيق انكشاف لبنان أمام الكيان الصهيوني، واستكمال تنفيذ القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والتمهيد لتطبيق خطة أولمرت لإعلان حدود نهائية للدولة العبرية، والانتقال بالنظام الإقليمي العربي إلى نظام شرق أوسطي.
وعلى الصعيد الاقتصادي شهد العالم الصناعي، بسب الحروب التي خاضتها الإدارة الأمريكية وشاركها فيها الحلفاء الأوروبيون، أقسى أزمة اقتصادية منذ الأزمة التي شهدها العالم 1929، وما زال العالم بأسره يعاني آثارها.
بعد عشر سنوات من هجمات 11 سبتمبر يتراجع الموقف الأمريكي من حركة طالبان، بسبب ضرباتها الموجعة لقوات الاحتلال، ويبدي الرئيس الأفغاني، حامد كرزاي استعداده للتفاوض معها، والتوصل إلى حل سياسي يضمن مشاركتها في الحكم. وابتهاج النصر بمصرع زعيم القاعدة بن لادن، الذي قتل في منزل في أحد الأحياء السكنية، في بلدة أبوت آباد في باكستان وليس في كهوف تورا بورا، لم يحل دون استمرار القاعدة في أنشطتها في عدد كبير من بلدان العالم، والتلويح بهجوم على المدن الأمريكية، مماثل للذي حدث في أيلول (سبتمبر) عام 2001، لكن بسيارات مفخخة هذه المرة. كما أن الهجمات الانتحارية في العراق لا تزال تحصد أرواح المزيد من القتلى كل يوم. ولا يبدو في الأفق ما يشي بعودة الاستقرار قريبا لأرض السواد. والحديث يجري عن انسحاب أمريكي وشيك للعراق، ليبقى مستقبله معلقا بين فوضى عارمة واحتمالات انتصار شعبه لكرامته ووحدة أرضهم.
والحركات الإسلامية التي أعلن أن الحرب على الإرهاب تستهدف القضاء عليها برزت قوية في معظم البلدان التي استهدفها موسم الربيع العربي. والصومال عرضة للمجاعات والكوارث والأمراض، في ظل غياب يكاد يكون كاملا من الغرب الحريص على حماية المدنيين وضمان حقوق الإنسان.
والربيع العربي، الذي أخذ مكانه في عدد من البلدان العربية، تحت شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتداول السلطة، أسهم في تشظي بعض البلدان التي طالها نسيمه أو لهيبه، والمنطقة بأسرها حبلى بالبراكين والأعاصير.