الهلع الإسرائيلي من الضعف الأمريكي والتصلب التركي والغموض المصري

في نيسان (أبريل) سنة 2009 قام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأول رحلة رسمية له خارج بلاده، وألقى خطاباً تاريخياً في البرلمان التركي بأنقرة، وبعد شهرين ألقى خطاباً مماثلاً في جامعة القاهرة. كان الخطابان والزيارتان تمثلان تحولا واضحاً في استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.
كانت الفكرة المسيطرة في الخطابين أن أوباما سيستبدل بالقوة العسكرية التي استخدمتها أمريكا في أفغانستان والعراق وخسرت من ورائها ثقة شعوب المنطقة القوة الناعمة حتى تتصالح مع العرب والمسلمين، وكي تدير حوارا هادئاً مع الآخرين لدعم مكانة الولايات المتحدة في المنطقة.
لم يكن اختيار أنقرة والقاهرة عبثياً أو عشوائياً بل كان تعبيرا عن سياسة جديدة تقوم على محورين أو ساقين هما تركيا ومصر، ومن سخرية القدر أن التحولات الجديدة في سياسة تركيا وما تشهده مصر من تقلبات تعلن انهيارا كاملا في رؤية واشنطن وتوقعاتها، وتعبر عن الخلل في فهم أمريكا للمنطقة.
كانت الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل تنظران إلى تركيا كنموذج لدولة موالية للغرب ولديها نزعة للاعتدال، وبها الفرصة لتحقيق الديموقراطية في دولة مسلمة، واعتبراها نموذجاً صالحاً لتتبعه الدول الإسلامية الأخرى خاصة الدول العربية، بل إن أوباما رأى في تركيا أرضاً مناسبة لاستراتيجيته الجديدة التي وضعت حدا فاصلا بين الإسلام الأصولي المتشدد الذي تمثله "القاعدة" والإسلام المعتدل الذي يتبناه النموذج التركي. واقتنع أوباما بأن التعامل والتعاون والتنسيق مع تركيا أمر ميسور ومتاح. وكانت مصر مبارك جزيرة من الاستقرار ونموذجاً لقوة إقليمية كبرى، خاصة أنها حريصة على السلام الذي بدأته بتوقيع اتفاقية كامب دافيد مع إسرائيل، التي اعتبرت واشنطن وإسرائيل أنها النموذج الذي سيحتذي به العرب .. ولكن باستثناء الأردن لم يحدث أي تطور على هوى إسرائيل.
وحملت الأحداث ما يسميه الغرب الربيع العربي الذي أسقط نظام مبارك، والذي تقول مصادر بحثية إسرائيلية إنه نتاج لطعن أمريكا من الخلف والتخلي عنه تماماً عندما استغاث بها. وأصبح الموقف الآن في يد المجلس العسكري الأعلى الذي يضطر إلى التعاون مع الأحداث حسب إيقاع الشارع الذي أصبح زاخرا بكل التيارات السياسية. وقد أدى ذلك إلى حالات انفلات سمحت لعناصر عربية بالدخول إلى مصر وإحداث فوضى عارمة تمثلت في الهجوم على السفارة الإسرائيلية واستضعاف إسرائيل للحكومة فقتلت ستة جنود على الحدود. وأصبحت السياسة تدار على أساس يومي، وعندما يتصدى المحللون لتوقعات الانتخابات القادمة يقول معظمهم إن الإسلاميين الأصوليين سيكون لهم نصيب كبير من كعكة الحكم ومن ثم يهيمنون على الشؤون الداخلية والخارجية المصرية.
وتصرخ إسرائيل ليل نهار خوفا من إلغاء اتفاقية السلام رغم إعلان المسؤولين المصريين تمسكهم بها. لكن رعب إسرائيل ينبع من استجابة الحكومة المصرية لطبول الشارع. وشرعت الأقلام الأمريكية المأجورة لإسرائيل تكتب عن الجهد الكبير الذي بذله كارتر في الوصول إلى هذه الاتفاقية التي إن ألغيت فستوقع المنطقة في خضم قلاقل بالغة.
كان أساس الاتفاقية هو مبلغ مليار ومائتين ألف دولار ارتفعت إلى مليارين كمعونة لمصر، وهو ما تعتبره واشنطن كافيا لقيادة مصر حسب مشاريعها، وهو في رأي أعداء فكرة المعونات السبب الأكبر في الشلل الاقتصادي المصري والدافع الأكبر لحالة الكسل الإنتاجي، الذي استمرأه النظام السابق. وهذا يعني حيرة واشنطن في كيفية استخدام ورقة المعونة، فهي إما أن تسكت وتراقب أو تتدخل وتضغط مما قد يفاقم الأمور، وتحاول الولايات المتحدة تخفيف حدة خسائرها بالتفاهم مع الإخوان المسلمين، فهي كقوة عظمى ليست لديها مبادئ جامدة، بل تمد يدها إلى أي طرف لتحقيق مصالحها. وتأمل إسرائيل أن يفشل هذا التعاون المنتظر على ضوء فشل خطة مماثلة تماما مع إيران 1979، وذلك لأنه قبل صعود الخميني إلى سدة الحكم اعتقد مساعدو كارتر وعلى رأسهم سوليفان السفير الأمريكي في طهران وقتئذ، وسيروس فانسي وزير الخارجية وهويزر مساعد هيج أن واشنطن إذا ساعدت على إسقاط الشاه فسوف تكسب الإسلاميين، وقد كان رغم تحذير بريزنسكي مستشار الأمن القومي الذي وقف وحيدا ضد هذا الإجراء. وسقط الشاه ورفضت أمريكا استقباله مع أن سوليفان أبلغه أن الأفضل الخروج من البلاد والعودة إليها بعدما يحل الجنرالات المشكلة، وقد صدّق الشاه أمريكا التي كانت في حاجة إلى نظام إسلامي متحمس لقتال السوفييت على الحدود مع إيران.
وكانت النتيجة التي يعرفها الجميع احتلال السفارة الأمريكية وإعلانها الشيطان الأكبر بعدما ضحت ببزرجان وبختيار وبني صدر وقطب زادة ... إلخ. ويقف الإسرائيليون لتحذير أمريكا من أي شراكة مع الإسلاميين خاصة بعد الموقف التركي الصلد من موضوع القافلة الذي أثبت أن المسلمين حريصون على حقوقهم ولا يتنازلون بسهولة.
ومع سيل النصائح الإسرائيلية الموجهة إلى أوباما تتضح عدة أمور:
أولا: هشاشة الدولة العبرية بحيث أنها بكل ما لديها من تقنيات وأسلحة تدرك تماما أن بقاءها مرهون بالبيت الأبيض وأمريكا.
ثانيا: الرعب الإسرائيلي من التحولات الإقليمية العارمة التي قد تضطر حاميتها إلى تغيير سياساتها.
ثالثا: أن غموض الموقف في مصر وحدة الموقف التركي قد أصابا إسرائيل بالهلع.
من هنا تشن إسرائيل حملة محمومة ضد رئيس الوزراء التركي أردوغان خاصة بعد الاستقبال الشعبي الحافل الذي لقيه في القاهرة. وبدأت وسائل إعلامها تتحدث عن انتهاكات لحقوق الإنسان! وسجنه للصحافيين المعارضين! وتعيين قضاة موالين له ولحزبه وإسقاطه لضباط لا يثق بولائهم! بل ذهبت إلى حد وصفه "بالفتوة الإقليمي"، وذلك لأنها تستمع منه إلى لهجة جديدة. ولجأت إسرائيل إلى تخويف أمريكا من أردوغان، "لأنه يهدد المصالح الأمريكية ويدعم الإسلام المتشدد! وتعلق المصادر الإسرائيلية على زيارة أردوغان للقاهرة، بأن تركيا لم تعد النموذج الذي يتطلع إليه المصريون، بل إن أنقرة ما زالت تمثل تجاوزات كثيرة ضد الديمقراطية. ويدرك الجميع أن صدمة إسرائيل مرجعها إلى تشدد رئيس الوزراء التركي في ردع الطغيان الإسرائيلي ورغبتها في جعل شرق المتوسط بحيرة إسرائيلية.
ونعود إلى الرئيس أوباما الذي يشعر الجميع بضعفه خاصة الحلفاء اليهود. فهو يعاني تكلفة باهظة لحروب العراق وأفغانستان، ويشكو من أزمة اقتصادية شديدة، التراجع الكبير في تطبيق الضغوط، وحالة التردد التي تتعامل بها مع الثورات العربية فهي تضرب في ليبيا وتتراجع في سورية وتتفرج في مصر وتحرك بعض الأمور من وراء ستار أتباعها هناك.
إذا أضفنا إلى ذلك فشل أوباما في إيران وفشله في إرغام الفلسطينيين على قبول شروط الإسرائيليين كما تعودت إسرائيل، وفشله الأعظم في الوساطة بين أهم حليفين له في الشرق الأوسط ـ تركيا وإسرائيل. كل ذلك يؤشر بأن أمريكا ستحضر رئيسا آخر لإنقاذها من ضعف أوباما قبل أن تحل إيران وتركيا محل أمريكا في ملء الفراغ وإقرار السلطة على الدول الأخرى.
وتقول الأبواق الإسرائيلية إن ظهور أمريكا بمظهر القوي يقوي أتباعها وعلى رأسهم إسرائيل والعكس صحيح.
وتشير الدلائل إلى أنه قبل حلول ربيع عربي آخر فإن المتوقع هو مجيء شتاء إسلامي تنتعش فيه تركيا وترتعد فيه إسرائيل وتنكمش فيه أمريكا وتتزايد فيه تفاعلات مصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي