بريجنيسكي: مواقف أمريكا ضاعفت عزلة إسرائيل في الشرق الأوسط
كشف زبجنيو بريجينسكي - المفكر الاستراتيجي ومستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر- عن أن الولايات المتحدة تتراجع مكانتها العالمية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، والسبب يعود إلى ضعف قدرتها على تحقيق حلول عادلة للقضية الفلسطينية، وقال بريجنيسكي في حوار مهم مع محطة "بلومبيرج" أخيرا: إن أمريكا تعاني تراجعا في قوتها النسبية على المستوى الدولي مقابل صعود لاعبين جدد، يرى العديد من الباحثين في الشؤون الاستراتيجية أن التغيرات التي تحدث- وإن كانت بطيئة- ستفضي إلى توزيع قوة مختلف، ما يعني أن على الولايات المتحدة أن تتأقلم في سياساتها مع هذه التغيرات حتى تبقى في موقع التأثير.
غير أن هناك معضلة أمريكية مرتبطة بعلاقتها مع إسرائيل وأثر ذلك في صياغة سياسة أمريكا الخارجية إزاء الشرق الأوسط، فواشنطن لا تنحاز فقط لمواقف إسرائيل الرافضة للسلام، بل تدعم وتحمي تل أبيب، التي تعمل وبشكل منتظم على تفويت الفرصة تلو الأخرى لتحقيق السلام، مع أن لذلك أثرا سلبيا على مصالح أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، وأسهم وما زال في رفع منسوب انتشار المشاعر المعادية للولايات المتحدة في العالمين العربي والمسلم.
طبعا، هناك نصائح كثيرة يقدمها الاستراتيجيون الأمريكيون لكيفية التعامل مع هذه المعضلة التي باتت مقلقة، لكن أهمها ما يكتبه ويقوله بريجينسكي، الذي يرى أن ثمة فرصة ثانية أمام الولايات المتحدة لاستعادة مكانتها وهيبتها، بخاصة إذا ما استبطنت ضرورة تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل، فالحل يصب في المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة.
ويرى بريجينسكي أن المنطقة العربية تمر بمرحلة انتقال ربما لن تفضي إلى ديمقراطية بقدر ما تفضي إلى شعبوية، وهنا يعني أن للشارع العربي ستكون كلمة قوية على عكس الوضع القديم الذي كان مريحا بالنسبة لواشنطن عندما كانت تتعامل فقط مع الأنظمة. هنا التحدي الجديد الذي تواجهه الولايات المتحدة، وهنا تحتاج أمريكا أكثر من أي وقت مضى إلى تحقيق نجاحات في عملية السلام في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة تتحدث عن السلام، لكنها تعمل القليل من أجل دفعه قدما. وربما أفضل من تحدث عن السلام هو الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابة الشهير في القاهرة في حزيران (يونيو) من عام 2009 عندما قدم فهما كبيرا لما يخدم أمريكا والعرب وإسرائيل، لكن لغاية هذه اللحظة لا يمكن الإشارة إلى أي تقدم أحرز بدعم من الولايات المتحدة.
وبالنسبة لمفكرين استراتيجيين من أمثال زبجنيو بريجينسكي، فإن الأمر لم يعد ترفا، بل ضرورة قصوى من ضرورات بقاء الولايات المتحدة في موقع التأثير، غير أن السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تعاني تفككا بسبب غياب السلام؛ ولأن الولايات المتحدة لا تقوم بما يلزم من أجل تحقيق السلام، فأمريكا لا تأخذ زمام المبادرة، بل تجلس في المقعد الخلفي وتسمح للتطورات أن تستمر بعوامل دفع ذاتي دون أن تتدخل الولايات المتحدة للتأكيد على تأثيرها أو حتى حشد دعم اللاعبين الآخرين.
وهذه السياسة لم تعد مجدية لأن الظروف تغيرت، فصحيح أن البيئة الاستراتيجية للشرق الأوسط في المرحلة السابقة كانت تساعد الولايات المتحدة على عدم الاصطدام مع إسرائيل لدفع الأخيرة للمضي قدما في عملية السلام، فأمريكا لم تكن تدفع ثمنا استراتيجيا لقاء غض الطرف عن التعنت الإسرائيلي، لكن المرحلة الجديدة ستطرح أسئلة لا يمكن للسياسة الأمريكية التقليدية تقديم إجابات شافية لها. فالمرحلة الجديدة التي تمر بها المنطقة العربية هي مرحلة شعوب وليس مرحلة أنظمة تقليدية تعاملت معها أمريكا في السابق بنجاح، وفي هذه الفترة الشعبوية تكون فيها الشعوب أكثر صلابة وأقل ميلا لتقديم تنازلات، ما يعني أن أمريكا فقدت فرصة مهمة لتحقيق السلام. وهكذا يرى زبجنيو بريجينسكي أن انحياز أمريكا للموقف الأمريكي في الأمم المتحدة ليس خطأ عاديا، إنما خطأ تاريخي واستراتيجي كارثي؛ لأن الولايات المتحدة التي صوتت لمصلحة إقامة دولة إسرائيل في عام 1947، كان الأجدى بها أن تكون أيضا بجانب التصويت لمصلحة دولة فلسطينية، فأمريكا بموقفها المناهض للفلسطينيين في الأمم المتحدة تبعث برسالة بأن الولايات المتحدة تقف ضد استقلال الفلسطينيين، وهو موقف لا يمكن تبريره في المنطقة العربية ولا حتى في العالم الثالث بدليل أن دول العالم الثالث تنحاز لحق الفلسطينيين في تقرير المصير وتعترف بدولة فلسطينية.
لكن هناك من يرى أن الإدارة الأمريكية الحالية لم يعد بوسعها عمل أي شيء يغضب إسرائيل؛ لأن هناك إعادة نظر عند الناخب اليهودي في أمريكا حيال الموقف التقليدي المؤيد للديمقراطيين، وبما أن الرئيس أوباما يولي أهمية لمعركة إعادة الانتخاب - وهي ستكون صعبة للغاية - فمعنى هذا أنه سيكون حريصا على مكانته وصورته في الشارع اليهودي في الولايات المتحدة. وكتبت كبريات الصحف الأمريكية مثل "نيويورك تايمز" ما يفيد بأن هناك أشبه بالثورة في موقف الناخبين اليهود، والسبب طبعا موقف الرئيس أوباما من إسرائيل. وبالفعل بدأ الرئيس أوباما مبكرا الانسحاب من مواقف له فسرت في إسرائيل بأنها مؤيدة للفلسطينيين ومعادية لإسرائيل! ولم يمتلك الرئيس أوباما أي استراتيجية أو حتى رغبة في الانتصار على تعنت رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.
غير أن بريجينسكي يرى أن بلاده بمواقفها أسهمت في عزلة إسرائيل والولايات المتحدة معا في الشرق الأوسط، وعلى المدى البعيد - وفي حال خروج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط - فإن إسرائيل لن تتمكن من البقاء. ويرى أن الوضع التراجيدي، حيث هناك أشخاص لا يبصرون وينظرون للحاضر بعدسة الماضي ومع ذلك يجلسون في مقعد القيادة ويحددون ما ينبغي القيام به. والعزلة التي يشير إليها زبجنيو بريجينسكي هي من نتاج السياسات، وهو يذكر أنه في عقود خلت كانت شعوب المنطقة تريد أمريكا بدلا من الإمبريالية البريطانية والفرنسية، ونجحت أمريكا في الاحتفاظ بعلاقات قوية مع السعودية وإيران وتركيا ومصر حتى في وقت كانت فيه أمريكا قريبة من إسرائيل، أما الآن فأمريكا معزولة وإسرائيل تقوم بعزل نفسها بشكل متزايد. بمعنى أن هذه السياسة تدمر الذات، وإذا ما أراد البعض ترجمتها للسياسة الداخلية فإنها بكل تأكيد ستكون حسابات قصيرة المدى.
ويوجه بريجينسكي سهام نقده للسياسات التي يقوم بها رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ولا يرى أن إسرائيل عامل استقرار في المنطقة؛ إذ لا يعقل أن يقوم ستة ملايين يهودي بحكم خمسة ملايين، فهذا ليس وضعا سهلا، إنما خطر وعنصر زعزعة استقرار في المنطقة. وهنا يقدم زبجنيو بريجينسكي قراءة جريئة ربما لا يظهرها العديد من الأمريكيين، وبالتالي فإن نتنياهو يدمر فرص إسرائيل على المدى الطويل؛ لأنه ليس حليفا لفكرة السلام في المنطقة. ومما يزيد من الطين بلة أن المنطقة تمر بتحول شعبويّ؛ لذلك فإن الوضع قابل للانفجار، بمعنى أن سياسة نتنياهو ومعه أمريكا ليست وصفة للعزلة فحسب، بل هي أيضا معادلة تضمن على المدى البعيد استمرار الصراع وتلاشي أمن إسرائيل، بمعنى أنها ليست استراتيجية بقاء بالنسبة لإسرائيل. لذلك يرى أن ما يجري على المدى البعيد يمثل التخلي عن مصالح أمريكا الاستراتيجية.
في أمريكا هناك مشكلة إضافية تتعلق بالانتخابات الرئاسية القادمة، فظهور حزب الشاي والسماح لكميات هائلة من الأموال بالتدفق لمصلحة الحزب سيضعف من فرص الحزب الديمقراطي، ويتضاعف الأذى مع التقارب بين حزب الشاب والقوة الكبيرة التي يتمتع بها لوبي إسرائيل، ما يعني أنه في نهاية الأمر - حسب تعبير زبجنيو بريجينسكي- فإن وضعا سينشأ سيدمر ليس فقط أمريكا، إنما إسرائيل معها. لذلك يرى زبجنيو بريجينسكي أن هذا الوضع والتغيرات الشعبوية التي تجري على قدم وساق في المنطقة العربية يستلزم مناقشات أخلاقية واعتبارات حقيقية لضمان بقاء إسرائيل كدولة ليست يهودية، وهذا الوضع يستلزم أيضا عودة الولايات المتحدة لسياسة حكيمة تمكن واشنطن من لعب دور عالمي تم التخلي عنه منذ مدة طويلة بسبب تردي السياسة الداخلية في الولايات المتحدة. القضية إذن ترتبط بتحدي البقاء ومشكلاته ومستلزماته.
باختصار، يرى زبجنيو بريجينسكي أن على عاتق الولايات المتحدة تقع مسؤولية البحث عن حل للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فسياسة الولايات المتحدة لغاية هذه اللحظة لم تساعد ولم تقم بدور مباشر، بل أصبحت نفسها جزءا من المشكلة، لهذا انتقد زبجنيو بريجينسكي خطاب الرئيس باراك أوباما في الأمم المتحدة، وهو خطاب جاء انعكاسا أو ترجمة لموقف تل أبيب الرافض لفكرة انضمام فلسطين كدولة عضو في الأمم المتحدة، فموقف أمريكا سيساعد على تفاقم الوضع الأمني في منطقة الشرق الأوسط. وللخلاص من الأزمة يقترح زبجنيو بريجينسكي على إدارة الرئيس باراك أوباما أن يؤيد قرارا في الأمم المتحدة ينص على قيام دولتين على أساس حدود عام 1967: واحدة يهودية في إسرائيل وأخرى للفلسطينيين.
بكلمة، تحذير زبجنيو بريجينسكي من استمرار التدهور في مكانة أمريكا وربط ذلك بعجزها أو عدم رغبتها في حل الصراع العربي - الإسرائيلي هو في مكانه، لكنه لم يصل لدرجة وصف ما على الإدارة الأمريكية أن تقوم به في حال رفض إسرائيل قرارات الأمم المتحدة، فالعلاقة بين أمريكا وإسرائيل علاقة حب من طرف واحد، فهناك تكلفة سياسية باهظة على الإدارة الأمريكية تدفعها في السياسة الداخلية إن قررت التصدي للحل.. كيف للرئيس أن يتخلص منها؟ هذا سؤال برسم الإجابة!