بوتين واليهود
عودة فلاديمير بوتين لكرسي رئاسة الجمهورية في روسيا أثارت العديد من الملاحظات والتعليقات، حتى إن التساؤل الأكبر الآن هو: هل عودته ضربة للديمقراطية أم تأكيد للاستقرار؟
وتأتي الإجابة حسب من يوجَّه إليه السؤال، والذي يعنينا اليوم هم اليهود. ذلك أن من اللافت أن اليهود استقبلوا خبر رجوعه بسعادة غامرة، ويقول معظمهم إن عودته بعد أربع سنوات قضاها رئيساً للوزراء تعتبر دعماً للاستقرار، والاستقرار هنا هو الاطمئنان اليهودي. بل إن كثيراً من الإعلاميين اليهود والداعمين لهم قالوها صراحة بأن بوتين أنعش الحالة المعنوية لليهود بمجرد الإعلان عن عودته. ولكن خصوم بوتين وهم أكثرية يرون أن عهدا من الركود والكساد قد بدأ بعودة رجل الأمن والاستخبارات إلى الصدارة.
ونقتطف بعضا من أقوال اليهود للتدليل على قيمة بوتين بالنسبة لهم ومن ثم إسرائيل .. يقول يوفجيني ستانوفسكي وهو رئيس معهد إسرائيل ودراسات الشرق الأدنى وأحد مفكري موسكو إن ''اليهود لم يعد عليهم أن يقلقوا الآن، لأن بوتين ليس معادياً للسامية ولا مناهضاً لإسرائيل''.
وعندما يصف اليهود شخصاً بأنه ليس معادياً للسامية ولا مناهضاً لإسرائيل فهذا معناه حصول هذا الشخص على صك مودة من اليهود، لأن من ينتقد اليهود أو إسرائيل ومهما كانت درجة الموضوعية في نقده، فهو يواجه بالتهمة الأزلية وهي معاداة السامية.
وبالنسبة لليهود المقيمين في روسيا الآن فإن عددهم يراوح بين نصف مليون ومليون، وهناك فارق بين الحد الأدنى والأعلى، لأن موجات الهجرة إلى إسرائيل عندما بدأت اختفى عدد كبير من اليهود الذين استوطنوا وحققوا المكاسب والنجاح ولا يودون رؤية مندوبي الوكالة الصهيونية.
وعلى كل حال فإن هؤلاء يشعرون بأن عصراً ذهبياً قد اقترب، وأن فترة معاناة اليهود على أيدي السوفيت قد ولت إلى غير رجعة.
والغريب أن بوتين هو ابن مخلص للـ ك. جي. بي، وهو جهاز الأمن السوفياتي الرهيب، وقد خدم فيه لمدة 20 عاماً وكان فيها نعم المسؤول المؤثر، بل إن مسيرة بوتين إلى أعلى ترجع أساساً إلى مكانته كرجل أمن أخاف منافسيه السياسيين فأخلوا له الساحة حتى بلغ أعلى المناصب. بل إن عودته تحمل في ثناياها الكثير من الشكوك حول الأسرار التي أدت إلى دفعه مرة أخرى إلى أعلى على حساب ميدفيدف الذي كان رئيساً له صلاحيات أكثر ولكنه لم يكن الرجل الأقوى. ولعل في إعادة الأمور إلى نصابها ووضع المسميات لأصحابها بعض الشفافية والصدق في أن يتولى الرجل الأقوى المكانة الأعلى.
ولماذا يحب اليهود بوتين؟
كان بوتين أول زعيم روسي يزور إسرائيل، حيث حضر استقبالات رسمية، وكذلك قام بزيارة معبد يهودي في موسكو وشارك في احتفالات إشعال الشموع في مناسبة شانوكا، وهو عيد يهودي مهم، وكذلك استقبل واحدا من أهم حاخامات إسرائيل وهو الحاخام بيريل لازار.
ورغم تعدد الاعتداءات العرقية في روسيا تحت حكم بوتين إلا أن الاعتداء على اليهود بالتحديد لم يرد ذكره ونادراً ما كان اليهود هم المستهدفين، وبلغ الأمر بالحاخام لازار أن قال إن بوتين هو صاحب الفضل في طرد معاداة السامية من المسرح السياسي الروسي. والمعروف أن سنوات الحرب الباردة شهدت – وما زالت – احتضان الولايات المتحدة لإسرائيل ووقوف الاتحاد السوفياتي وراء بعض الدول العربية التي حاربت إسرائيل ومنها مصر وسورية. ورغم غياب فكرة معاداة السامية عن عقول القادة السوفيت وتعاملهم مع الموقف من منطلق مصالح سياسية بحتة، إلا أن العادة الإسرائيلية – واليهودية – تسارع إلى إدانة أي معارض بتهمتهم الخالدة ويؤصل لازار قوله ''لن تجد في روسيا الآن من يتخذ موقفاً معادياً للسامية''.
وقال مراقب يهودي آخر ''إنه طوال سنوات حكم بوتين كرئيس للجمهورية أو رئيس للوزراء كان يعطي اهتماما خاصا للجالية اليهودية وتعامل معنا بكل الاحترام''.
ولكن نظام بوتين اكتسب سمعة تخويف الخصوم بأسلوب رجال المخابرات وكان يلجأ للترهيب والابتزاز وكان أبرز ضحاياه الساسة والإعلاميين وكان دائماً ما يعرقل الإصلاحات الديمقراطية وأكبر دليل على ذلك هو الأسلوب الذي اتبعه ليمهد الطريق أمام عودته لرئاسة الجمهورية مرة أخرى.
وجاء سيناريو العودة بإعلان من ميدفيدف – الرجل الذي انتقاه بوتين وزرعه في منصب الرئيس – بأنه لن يرشح نفسه للحكم أو الرئاسة وأعلن فوراً دعمه لعودة بوتين للكرملين. ومقابل ذلك عرض بوتين على ميدفيدف كرسي الوزارة.
وكان بوتين قد تولى رئاسة الجمهورية في الفترة من 2000 إلى 2008 ولكن الدستور منعه من تولي فترة ثالثة، فانتقى أحد رجاله ''ميدفيدف'' ليسد الهوة الدستورية، وبعد أن تولى ميدفيدف من 2008 إلى 2012 أصبح الأمر جليا خاصة بعد أن مد ميدفيدف فترة الرئاسة لتصبح ست سنوات عن الفترة الواحدة، ما يعني أن بوتين وهو الآن في الـ 59 سيبقى رئيساً حتى عام 2024، والملاحظ أنه يتمتع بشعبية لا بأس بها، ولا خوف عليه من خصومه أو أي تحديات سياسية، فالرجل صاحب خبرة عالية في العمل السري، لذلك فليس من الصعب عليه أن يكون قد التهم خصومه واحدا بعد الآخر.
والسبب الأكبر في شعبية بوتين يرجع إلى حنين الروس لعهد من الانضباط والاستقرار بعد سنوات من الفوضى والاختلال الأمني الذي يأتي في ركاب الشعارات الليبرالية والديمقراطية والمذهبية. كما أن بوتين له خبرة في إدارة حزبه ''حزب روسيا المتحدة''، الذي تحول تحت قيادة بوتين إلى جهاز دعاية له تدعمه وسائل إعلام قوية.
ويرى الليبراليون في عودة بوتين إلى الحكم كارثة كبرى حتى إن أحد زعمائهم قال ''إنني أشعر بالصدمة للأسلوب الذي يعود به هذا الطاغية''. وقال آخر ''لقد رأينا كيف دمر هذا الرجل كل مؤسساتنا وانتخاباتنا ودستورنا، وكلنا يعرف أن بوتين دمر كل المنجزات الديمقراطية التي صنعها بوريس يلتسين بسبب فشله الاقتصادي. لقد أقدم بوتين على إرهاب خصومه بحجة القضاء على الفساد والرغبة في إحداث إصلاحات اجتماعية''.
وهناك إجماع على أن عودة بوتين هي تحقيق عادل لما يدور من حقائق في روسيا. وهنا انتفض اليهود لدعم صديقهم فيقول ستانوفسكي ''لا يحق لهؤلاء انتقاد بوتين لدكتاتوريته، لأن الديمقراطية لا تصنع في يوم واحد، وعلينا أن نعطيه فرصة، ويكفي أن نقول إنه يمثل وجها سياسيا بارزا في روسيا''.
والحقيقة أن رجال الأعمال اليهود يتوقعون مكاسب كثيرة وأقلها عدم تعرض أموالهم للضغوط كما حدث في فترة سابقة، لذلك لا توجد قوى دولية تهاجم بوتين.