المفهوم الشرعي للبيعة .. عقد وفاؤه عهد ونقضه غدر
البيعة عقد وفاؤه عهد ونقضه غدر، هذا ما لخصه الدكتور حاتم الفرائضي خطيب جامع ابن عباس في جدة في رسالته البحثية الخاصة بمفهوم البيعة، موضحا أن مدلول البيعة شرعا ما استند إليه من قول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: البيعة هي العهد على الطاعة كأنَّ المبايعَ يعاهد أميرَه على أنه يُسلم له النظرَ في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره.
وتابع قائلا: "وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمي بَيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحةً بالأيدي.
وأبان الفرائضي أن البيعة عقد يقوم به أهل الحل والعقد، وهم الجماعة الذين تنعقد البيعة بمبايعتهم وهم "أولي الأمر" من أصحاب الأمر المطاع من كبار الأمراء وكبار العلماء، مدللا على طاعتهم بقول الله تعالى: "يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً".
أما كون الوفاء بالبيعة عهد، فقال الفرائضي: "البيعة معاهدة على السمع والطاعة في غير معصية الله"، مدللا على ذلك بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم"، وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وحول قوله "نقض البيعة غدر"، دلل الفرائضي بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادرَ أعظم غدرا من أمير عامة" رواه مسلم.
وتابع قائلا: "كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحذر أهل بيته وولده من الغدر ونكث بيعتهم للسلطان، نعم! الصحابي المشهور بالحرص على شدة متابعة السنة يهدد ولده وأهله بالقطع لو خلعوا بيعة يزيد بن معاوية بعد ما فعل يزيد ما فعل.. لا لشيء إلا لأن ليزيد بن معاوية بيعة في عنقهم.
وعدد الفرائضي ثلاث مراحل لبيعة الإمام، أولاها "تعيينه أي تحديده" من هو وهذه تتم بأحد الطرق الثلاث: أول الطرق أن يعهد السابق للاحق، كما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر لأبي بكر - رضي الله عنه- ، وكما عهد أبو بكر الصديق لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما-، وكما عهد الصحابي الجليل كاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد، وكما عهد الملك عبد العزيز للملك سعود رحمهما الله وهكذا.
وأضاف: في زمن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه توسعت الدولة وكثر المناوئون لها فرأى الصحابي الجليل وكاتب الوحي وخليفة المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن مصلحة الإسلام والمسلمين أخذ البيعة لابنه يزيد بن معاوية تربو على مصلحة ترك الأمر بين المسلمين ليختاروا إمامهم، ولعلهم يختلفون ويتفرقون، فعهد بالأمر من بعده إلى ابنه يزيد بن معاوية الذي غزا الروم، وحاصر القسطنطينية، وهي الغزوة التي توفي فيها أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشار إلى أن الخبر في صحيح البخاري.
أما ثاني الطرق، وفقا لما ذكره الفرائضي في رسالته: "أن يعهد الإمام السابق لمجموعة من أهل الحل والعقد لاختيار الإمام اللاحق، كما فعل عمر بن الخطاب عندما رشح ستة من العشرة المبشرين بالجنة. وثالث الطرق: أن يكون الناس مختلفين مع تفرق أهل السنة فلا جماعة تجمعهم فيجمعهم إمام بالقوة ويتغلب عليهم ويتأمر عليهم، فتجب طاعته ويصير الإمام. وكبار أمرائه وكبار العلماء هم أهل الحل والعقد، وهم أولو الأمر وهم الجماعة التي لا يجوز الخروج عليها لحديث "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد".
وأبان الفرائضي أن ثمرات البيعة تأتي بلزوم السنة والجماعة وهي من سمات الفرقة الناجية من عذاب الله، فلا يكون المرء من أهل السنة والجماعة إلا إذا لزم السنة ولزم الجماعة ولا جماعة إلاَّ بإمارة، ولا إمارة إلاَّ بسمع وطاعة، مدللا على ذلك بقول الرسول الكريم: "ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية" متفق عليه.
وقال: "لهذا يجب على أولي الأمر، أي أهل الحل والعقد في الدولة الإسلامية نصبُ إمامٍ يَخْلُفُ سَلَفَه إذا لم يَعْهَد الإمام السابق إلى الإمام اللاحق وهذا باتفاق الأئمة، وإذا عهد السابق للاحق وجب على أهل الحل والعقد المبادرة بعقد البيعة له، ثم إشهارها والسعي لأخذ البيعة من عامة الرعية".
يقول الدكتور حاتم الفرائضي: "يقوم أولو الأمر المطاع أهل الحل والعقد بـ "عقد البيعة"، أو بيعة العقد، وذلك بإعلان يعلن أهل الحل والعقد هذه البيعة للعامة لتقوم بمبايعة الإمام فيأتي دور "بيعه العهد" لعامة الرعية بالسمع والطاعة في المعروف. وهذه تتم مشافهة مع الصفق بالأيدي
فقد لزمت هذه البيعة بقية الرعية بمجرد عقد أهل الحل والعقد لها، لأن المسلمين جماعة واحدة ينوب عنهم قادتهم وعلماؤهم وكبارهم.
وبقية الرعية تبع لأهل الحل والعقد تلزمهم الطاعة بمبايعة هؤلاء، "هذا اعتقاد أهل السنة"، يرون أن هذه البيعة ملزمة لكل الأمة، وأنه يجب عليهم الدخول في بيعة الإمام والانقياد لطاعته، فالواجب أن يرى كل أفراد الرعية أن في عنقهم بيعة لإمام الدولة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"رواه مسلم.
وطرح الفرائضي في رسالته تساؤل: هل قبول البيعة فرض عين؟، ليجيب بالقول: "قبول البيعة فرض عين على كل مكلف، لكن مبايعة أمراء القبائل وأعيان القرية وكبار الناس تقوم مقام بيعة من خلفهم، وكذا للوالد أن يبايع نيابة عن بنيه ولا أقول ولده كما فعل ابن عمر رضي الله عنه".
وتابع قائلا: "سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم "من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة الجاهلية"، فأجاب: أرجو ألا يجب على كل إنسان المبايعة، وأنه إذا دخل تحت الطاعة وانقاد، ورأى أنه لا يجوز الخروج على الإمام، ولا معصيته في غير معصية الله، أن ذلك كاف، وإنما وصف صلى الله عليه وسلم ميتته بالميتة الجاهلية، لأن أهل الجاهلية كانوا يأنفون من الانقياد لواحد منهم ولا يرضون بالدخول في طاعة واحد، فشبه حال من لم يدخل في جماعة المسلمين بحال أهل الجاهلية في هذا المعنى، والله أعلم. الدرر السنية م 9 ص 11.
يقول الفرائضي: "يفضل في البيعة لزوم الصيغة الشرعية دفعا للمعاريض، وهيئتها: أن يمد الرجل المبايع يده اليمنى إلى الإمام ويقول له: بايعتك أو أبايعك على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله، مدللا على ذلك بقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله" رواه مسلم.
أو يقول: "أقر لك بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم"، كما هي بيعة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لعبد الملك بن مروان.
وأضاف: فلو أمر الإمام الرعية بأمر ما، صار أمره واجباً على أفراد الرعية، فرض عليها تنفيذه حتى لو صادف الأمرُ عسر المرء أو كراهته للأمر، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وأوضح الفرائضي: "إن البيعة والمبايعة تتم بالقلب، بعقد القلب والنية على السمع والطاعة للإمام المبايع بالمعروف في المنشط والمكره، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم.
يقول الفرائضي: "البيعة عبادة، فابتغوا بها وجه الله، فينبغي أن يُتعبد لله ببيعة إمام المسلمين ويقصد بها وجه الله، لا نيل شيء من الدنيا، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكِّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه، إن أعطاه ما يريد وَفَى له وإلا لم يَفِ له، ورجل بايع رجلاً بسلعةٍ بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدَّقه، فأخذها، ولم يعط بها" روى البخاري.
من جانبه، علق الدكتور هادي اليامي عضو هيئة حقوق الإنسان ونائب رئيس اللجنة الوطنية للمحامين، على مفهوم البيعة الإسلامي بالقول: "تعني العهد على الطاعة من الرعية للراعي، وإنفاذ مهمات الراعي على أكمل وجه، وأهمها سياسية الدين والدنيا على مقتضى شرع الله".
وأوضح اليامي أن البيعة بدأت منذ فجر الحضارة الإسلامية؛ حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم صحابته أكثر من بيعة: كبيعتي العقبة الأولى والثانية، وكذلك بيعة الرضوان.
وكانت طوائف المسلمين كلها تبايعه - صلى الله عليه وسلم - فمن الرجال الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدد لا يمكن حصره، ومن النساء العدد الجم، وقد أحصى الإمام ابن الجوزي عدد من بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - من النساء، فبلغن457 امرأة، وبايعهن بالكلام، بل وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع الأطفال، حيث بايع عبد الله بن الزبير - رضى الله عنه - وهو ابن سبع سنين".
وقال: "من هنا ندرك أن الحضارة الإسلامية حضارةٌ بناءة، فهي تعي قيمة أفرادها، وضرورة مشاركتهم في الأحداث المحيطة بهم، ومن ثم وجدنا أسوة المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرسي مبدأ البيعة منذ اليوم الأول لقيام الدولة الإسلامية.
ولأهمية أمر البيعة في المنظور الحضاري الإسلامي وجدنا القرآن الكريم يُشير إليه في أكثر من موضع، حيث يقول تعالى في سورة الفتح: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)، وفي السورة ذاتها يقول تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) كما أشار القرآن الكريم إلى بيعة النساء، دلالة على أهمية دورهن الفاعل في بناء الحضارة الإسلامية، فقال تعالى: "فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
وأضاف: من هنا كان للسعودية بقيادتها الرشيدة على منوال ما شرعه الإسلام من البيعة حيث عمدت إلى تأسيس هيئة البيعة الحاكمة، والتي تعمل جاهدة على المحافظة على كيان الدولة ووحدة الأسرة المالكة وتماسكها.
وفى ذلك كامل المحافظة على الوحدة الوطنية ومصالح الشعب الداخلية والخارجية.
وتابع قائلا: "على قدر ما ألم بالأمتين العربية والإسلامية من وخزات الألم وشدته بفقدان سلطان الخير الأمير سلطان بن عبد العزيز - رحمه الله - على قدر مباركة القائمين في الداخل والخارج على تأييد اختيار هيئة البيعة الحاكمة للأمير نايف بن عبد العزيز ليكون ولياً للعهد وساعداً أيمن للملك عبد الله بن عبد العزيز في إدارة شؤون الدولة ومواصلة مسيرة النهضة التنموية في المملكة في مختلف المجالات.
ويرى عضو هيئة حقوق الإنسان، أن هذه الثقة تنبع من رصيد عريض من الإنجازات العملية التي لم تقتصر على الجهود الأمنية بوصف الأمير نايف وزيرا للداخلية بل وصف ما يملكه من شمولية الخبرة الإدارية والسياسية، فضلا عن الحنكة الدولية في الموازنة بين المصالح الداخلية والخارجية، ولعل أشدها بريقا ما حققه ولي العهد في التصدي لأرباب الفكر الضال ومحاولاتهم الإرهابية والضربات الاستباقية.
وقال: "إن ما يمتلكه ولي العهد من رصيد ضخم من العطاء والبذل في خدمة دينه ومليكه ووطنه، والدفاع عن حياضه، والسهر على أمنه واستقراره، والحفاظ على مكتسباته، كان ضماداً لجرح غائر ألم بالمملكة على فقدها للأمير سلطان بن عبد العزيز، والحمد لله على توفيقه ومنّه".