أم مفرح بائعة الحنة
"حنة، حنة.. جئت اليوم أبيع الحِنة للنساء والبنات العذارى والمتزوجات. أبيع كل ما هو جميل، أبيع أحلاما، وأبيع بقايا كلامٍ وأمل وأوهام.. أبيع الحنة للفرح وللأعياد، هيا اقتربن يا بنات.." هكذا ارتفع صوتُ أم مفرح في سوق النساء الشعبي بدعواتها للشراء، بصوتها الأجش العميق..
أكانت ترتدي قفازاً مجعدا ً خشناً على يديها؟ تأملوا جيدا، لعل ذاك القفاز ما هو إلا جلد يديها اللتين نام عليهما الزمن. غريبٌ أمرك يا أم مفرح ؟ وأنّى لأم مفرح أن تعرف كيف تضع مرطباٌ لتليين هذا الجلد السميك؟ يطل وراء نقاب أم مفرح وجهُها الضاحك، وتحت نقابها معالم وجهٍ أخفت سرا دفين.
أهي في الخمسين من عمرها؟ أم هي في الستين؟ أم أنها في السبعين.. أوه، لا يهم!
والذي كان يهم أنها كانت في السوق الشعبي تبيع الحنة لمناسبات الفرح، وبحصيلة البيع تشتري ما يعينها على العيش. نعم، معادلة صعبة، فهل ما تجنيه "أم مفرح" من الريالات القليلة تكفي حياة إنسان؟ إلا أن كانت حافة الحياة!
لكن المعادلة المستحيلة عند ام مفرح يجب أن يتعادل طرفاها، فحصيلة ما تبيعه من حنة يذهب لسداد إيجار بيت طين، وشراء ما تسميه "حبوب مرض السكر اللعين" ودواء الضغط، وسداد فواتير الكهرباء والماء.
والمعاناة من قال أنها هنا تنتهي..
أبنها مفرح تخرج ولم يجد وظيفة، وابنتاها لم توفقا لا بزواج ولا بتعليم، نوف البنت الكبرى على الكرسي المدولب ولله الحمد والمنة، ونورة تساعد أختها في حاجاتها، ولكن.. الحمد لله فالبسطة موجودة، والنساء يتحنين والحنة بضاعتها متوافرة.. ولكل رزقه، ولن يموت أحدٌ جوعا.. لله عليك يا أم مفرح! ثم أخذت أم مفرح نفسا عميقا بشهيق مسموع، وانطلق من جديد العنانُ لصوتها:"حنة .. حنة."
وفي الظهيرة:
ارتفع صوتُ الآذان: "الله أكبر، الله أكبر.." وبدأت أشعة الشمس ترسل أشعتها لاهبة كحممٍ غير مرئية على بسطة "أم مفرح"، وتصب جمرا متواصلا على قمة رأسها، وقامت أم مفرح لتستعد للنهوض كي تصلي حين باغتها صوتٌ رجولي عالي النبرة، حاد الكلمات، وارتطم بإذنها نشازا غليظا، فأذنها لم تعتد إلا سماع أصوات النساء المتسوقات..
رفعت رأسها بثقل وترقب لجهة هدير الصوت، أعمت أشعة الشمس عينيها المجهدتين مانعة رؤية الرجل صاحب الصوت الهادر:
- من أنت ؟ سألـَتْه..
- لماذا؟ ألا ترين؟ ألا تدركين أنك مخالفة هنا؟ لقد شوهتِ المنظرَ الحضاري للمدينة بصوتك وشكلك وببسطتك؟ وتصرخين بالشارع أيضا، ألا تخجلين وتخافين من ربك؟ هيا، هيا، أغربي من هنا..
- وأين أذهب يا بني؟
- لا أعرف، ولا يهمني أن أعرف. هيا احملي بضاعتك واغربي بسرعة.
- أرجوك، أين أذهب يا ولدي؟
- ليس شغلي، أنت وأمثالك لا تعرفن الحياء. أين أهلك؟ أين زوجك؟ أين أولادك؟ هيا تحركي، أغربي..
وبدأت أم مفرح تردد بخوف وذهول وحيرة: " ولكن.. أين أغرب؟"
وهنا حدث شيء آخر..
سكن الموظف فجأة بعد أن كان يتشنج غضبا، وشعر هو أيضا بالشمس الحارقة تصب مستقيمة على رأسه، ولم يتناول فطوره بعد، والشهر سيصل لنهايته، وزوجته غاضبة عند أهلها، وأقساط السيارة ومتطلبات المدرسة تلهب ميزانيته العجفاء.. ولكن سكونه كان كالسكون الذي يسبق الإعصار، التهبت أعصابة دفعة واحدة وتناول أكياس الحنة ورماها في عرض الشارع المُتْرب، وسحب بقوة البساط الذي تفترشه أم مفرح، وبعيدا.. رماه. ثم ولى الأدبارَ مسرعاً إلى سيارته وكأنه أشباحا تجري وراءه تلك اللحظة وتلاحقه..
وكالبرق انطلق بسيارته..
أم مفرح لم ترى وجه الموظف العصبي ولا تعرف مشاكل حياته، ولم تعرف من هو، وجلست على الأرض مكان بسطتها التي كانت، تسند بيدِ معروقة يكسوها جلد خشن وجها تعبا وتتملى بعينين زائغتين دامعتين حناها المنثور، وحصيلتها الضائعه.. ومصيرها القاتم.
وطاف برأس أم مفرح وجه زوجها المطمور تحت التراب، وكرسي نوف المدولب، وعينا نورة الطافئتان، وانتظار مفرح لوظيفةٍ لا تجيء..