في العودة إلى قواعد الاقتصاد الكلاسيكي
صار واضحاً أن الإفراط في الاعتماد على السياسات المالية على حساب السياسات الاقتصادية وترك الحبل على الغارب للمصارف والبنوك والمؤسسات المالية وحتى المحاسبية دون حسيب أو رقيب لفتح فضاء الائتمان واسعاً، سبب جوهري في حدوث الأزمة الاقتصادية العالمية، وأنها لم تكن بنت عامها 2008م وإنما تداعت مع فترة الرئيس الأمريكي ريجان ورئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر في حماسهما للخصخصة وفي منح السوق المالية قيادة عربة الاقتصاد.
غير أن هناك مَن يأخذ الأزمة إلى أبعد من ذلك حين أقدم الرئيس الأمريكي نيكسون، على فك الارتباط بالذهب وقرر تعويم الدولار لما له من سيادة عالمية على غيره من عملات العالم الصعبة، ولما كان يتمتع به الاقتصاد الأمريكي من قوة ومن اعتماد واسع عليه على النطاق العالمي أجبر العالم تلقائياً للارتباط به، خصوصاً الدول التي لها علاقاتها الاقتصادية مع أمريكا، ومع تضعضع أو ضياع الاقتصاد الأمريكي بسبب الإنفاق الهائل على الحروب والتسليح ومع هجرة مصانع ورؤوس أموال أمريكية للشرق الآسيوي، تحت تأثير العولمة، كل ذلك أدى إلى تعرُّض الدولار إلى فقدان مكانته، وطرأ عليه فقدان لقيمته السابقة مقابل سعر صرف العملات الأخرى، وبالتالي شكّل هذا الإجراء سبباً جوهرياً آخر سابقاً للأول.
المعالجات التي سعت أمريكا وأوروبا إلى انتهاجها وتنفيذها، لم تسفر بعد عن حلول ناجحة للخروج من الأزمة وإنما تعقدت بأزمة لاحقة.
في ظل هذا الوضع الحرج بدأ الحديث يتواتر عن أهمية التركيز على القطاعات الإنتاجية وعلى القوى البشرية.. وتحدث الرئيس أوباما عن وضع التعليم في الولايات المتحدة وما يعانيه من تردٍ في جودته ونوعيته، مشيراً إلى ما حققته الصين كمثال مستفز على المستوى القومي الأمريكي وما حدث فيه من ثورة معرفية جعلت الصين في موقع المتحدي الخطير لأمريكا على صعيد القوى البشرية النوعية مثلما هي على الصعيد الاقتصادي الوافر الإنتاجية الصاعد بالجودة والنوعية والسعر المنافس، بل إن الرئيس بيل كلينتون كان قد سبق له أن تحدث عن تخلف التعليم في أمريكا وعلاقات الإنتاج الأخرى، مثلما أن زعماء أوروبيين خاضوا في الاتجاه ذاته.
معالجة الأزمة أسفرت أيضا عن إعادة النظر في كفاءة السياسات المالية وإحكام الرقابة على آليات التمويل في البنوك والمصارف والعودة بها إلى حظيرة الدولة من الناحية القانونية، وكذلك الحال في شركات المحاسبة للتأكد من موثوقيتها وصدقيتها في منح الضمانات والشهادات.
هذه الاتجاهات، نظر إليها البعض على أنها عودة إلى قواعد الاقتصاد الكلاسيكي المحافظ في تركيزه على الاقتصاد الحقيقي أو الفعلي (الإنتاج) وفي إبقاء عين الدولة مفتوحة، من خلال القوانين المنظمة لحرية السوق، على القطاع الخاص، خصوصاً في قطاعاته المؤثرة كالبنوك والمؤسسات المالية، وفي أهمية الجودة والنوعية في التعليم لتوفير قوى بشرية بمهارات ومعارف تقنية عالية.. فهل أن الأمر حقاً هو عودة لقواعد الاقتصاد الكلاسيكي أم أن ملامح القول وبعض الإجراءات التي تم الأخذ بها لا تعني العزم على العودة المشابهة بالفعل؟ إنما الشيء الأكيد أن اتجاهاً ''ما'' يتخلق في إدارة الاقتصاد، إلا أنه من المبكر تحديد نوع ولون وشكل الجنين!!