قمة آسيان منتدى متشرذم يجمعه الطموح الإقليمي وتفرقه السيادة الوطنية
على قاعدة سابقة للقوات الجوية الملكية في بلدة سيليتار، وبالقرب من حدود سنغافورة مع ماليزيا، توشك شركة رولز – رويس على استكمال بناء أول مصنع لها خارج المملكة المتحدة لصناعة محركي ترنت 900 و 1000 اللذين تستخدمهما طائرة إيرباص A380 وطائرة دريملاينر التي تصنعها شركة بوينغ.
وهذا هو بالضبط نوع الاستثمار الذي ركز عليه رؤساء الدول والحكومات عند توجههم جواً إلى منتجع جزيرة بالي الإندونيسية في الأسبوع الماضي لحضور القمة السنوية لرابطة جنوب شرق آسيا ''آسيان'' التي تتألف من عشرة بلدان.
لكن هناك تناقضاً. فلدى سؤاله عن جاذبية بلدة سيليتار، يقول جوناثان أشرسون، رئيس شركة – رولز- رويس في منطقة جنوب شرق آسيا :''فكرنا فعلاً في مواقع آسيوية أخرى، لكن عندما وصلنا إلى التحليل التفصيلي، برزت سنغافورة بشكل واضح جداً.'' إنه يشير إلى السوق الآسيوية التي تنمو بسرعة بخصوص محركات الطائرات الضخمة، وإلى العلاقة القائمة مع الخطوط الجوية السنغافورية وإلى توفر العمال المهرة.
بيد أنه، وهذا أمر له دلالة، لا يتطرق إلى عضوية سنغافورة في رابطة بلدان جنوب شرق آسيا – رغم أن هذا التجمع يفاخر بأن عدد سكان بلدانه مجتمعة يزيد على 620 مليون نسمة، مع ناتج محلي إجمالي متوقع هذا العام بمبلغ 1,800 مليار دولار، واحتمال تشكيله بديلاً عن الصين التي تتزايد التكاليف فيها.
بهذه المقاييس، تعتبر ''آسيان'' الركن الاقتصادي الثالث لآسيا الناشئة – بعد الصين والهند، عملاقي المنطقة – الأمر الذي يساعد على تفسير السبب في انضمام ثمانية من نظرائهم الذين لديهم مصالح استراتيجية في المحيط الهادئ لعقد سلسلة من القمم الأخرى معهم في عطلة نهاية الأسبوع. فبالنسبة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، والرئيس الصيني هو جنتاو، ورئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الهندي مانموهان سنغ وكذلك بالنسبة لزعماء اليابان، وأستراليا، ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، فإن القمة السنوية لمنطقة شرق آسيا التي تعقب اجتماع آسيان تعتبر واحداً من الأحداث القليلة في التقويم السياسي الذي يوفر منتدى عريضاً لمناقشة المشكلات الإقليمية التي تزداد حدة كالمطالبات الإقليمية المتداخلة في بحر الصين الجنوبي.
بالنسبة للولايات المتحدة، بشكل خاص، تعتبر ''آسيان'' مسرحاً مهماً في المعركة على النفوذ مع الصين، تلك المعركة التي أعقبت القرار التي اتخذته إدارة أوباما بإعادة تأكيد النفوذ الأمريكي في المحيط الهادئ.
لكن الأهمية السياسية المتنامية لـ''آسيان'' تنبع إلى حد بعيد من موقعها. فعلى الصعيد الاقتصادي، فإن أرقام التكتل السكاني والناتج المحلي الإجمالي تعتبر مجافية للحقيقة. إن هذه الرابطة تظل تجمعاً متبايناً لعشرة اقتصادات منفصلة ومختلفة جداً. ويرى فيها كثير من رجال الأعمال ورشة كلامية مخيبة للآمال على الدوام صادف أنها تضم عدة بلدان تقدم بديلاً جذاباً عن الصين على صعيد عمليات التصنيع أو المقار الرئيسة الإقليمية.
تقدم بالي فرصة نادرة لتغيير تلك النظرة، حيث إنها تجعل من الاجتماع لحظة بالغة الأهمية في تاريخ هذا التجمع الممتد منذ 44 عاماً. سوف يقوم زعماء ''آسيان'' باستعراض التقدم الذي تم إحرازه فيما يتعلق بخطة طموحة لخلق مجتمع اقتصادي متكامل بحلول عام 2015. وتقضي الخطة بإنشاء سوق إقليمية حرة في مجال البضائع والخدمات، ووضع قواعد متسقة للاستثمار، ونظام مشترك للتأشيرات الخاصة بالعمال المهنيين والعمالة الماهرة وتحرير تحركات رأس المال.
''إذا تمكنوا من إنجاز ذلك التكامل فسيكون ذلك بمثابة الكريمة على الكعكة لأنه سوف يسمح للشركات بالعمل بانسجام أكثر في تلك البلدان''، كما يقول جرانت باول، مدير مركز اكسنتشرز مانجمنت كونسالتنغ إنوفيشن في سنغافورة، والمؤلف الرئيس لتقرير حديث بني على إجراء مقابلات مع كبار التنفيذيين في أكثر من 400 شركة لديها عمليات في منطقة جنوب شرق آسيا.
هناك الكثير من الأشياء التي تصب في صالح ''آسيان''، باعتبارها وحدة اقتصادية واحدة. فعلى مدى عقد من الزمن، حققت المنطقة متوسط نمو اقتصادي سنوي بنسبة 6 – 7 في المائة. وتوحي العوامل الديموغرافية المواتية من حيث إن نسبة الشباب فيها أكبر منها في الصين بأن النمو السريع قابل للدوام لسنوات عديدة وذلك مع نمو القوة العاملة وزيادة الإنفاق الاستهلاكي.
قلة من الشركات الدولية تبحث عن مجال عمل لها، والكثير منها عينها على السوق المحلية والعين الأخرى على الإمكانية التي توفرها كتحوط ضد المشكلات الموجودة في الصين. ويوجد لدى شركة باسف الألمانية للكيماويات مصانع في سنغافورة وتايلاند، وهي تخطط لكي يكون لها حضور في ماليزيا من خلال مشروع للمواد الكيماوية المتخصصة قيمته مليار يورو بالاشتراك مع شركة بتروناس المملوكة للدولة. وتفكر شركة هيونداي الكورية الجنوبية في إنشاء مصنع في الفلبين إذا ألغى التكامل الاقتصادي التعرفات الإقليمية على السيارات كما هو مخطط. وقد رسخت شركة بياجيو الإيطالية للسكوترات نفسها في فيتنام وهي تصدر بضائعها عبر المنطقة.
وبدأت بعض الشركات المحلية تفكر على نطاق إقليمي أوسع أيضاً. فشركة إير آسيا الماليزية للنقل الجوي الرخيص تسوق نفسها كشركة آسيان للطيران وتريد أن تعمل بين جميع مراكزها السكانية الرئيسة. ويوجد لدى شركة بي تي تي كيميكال، وهي أكبر شركة للبتروكيماويات في تايلاند، مصنع مشترك في ماليزيا لصناعة المواد الكيماوية المتخصصة. وتبنى بنك سيمب الماليزي استراتيجية رسمية شعارها'' فكر على مستوى آسيان''. وقامت شركة أكسياتا الماليزية للاتصالات بتأسيس عمليات لها في العديد من أسواق ''آسيان''، وكذا فعلت شركة الاتصالات السنغافورية.
لكن هناك شك على نطاق واسع، ولو أنه انفرادي، في أوساط مجتمع الأعمال والمال في المنطقة حول ما إذا كان المجتمع الاقتصادي سوف يحدث، ومدى الفعالية التي سيتم تنفيذه بها. ففي بورصة مشتركة نوعاً ما، يقلب مصرفي دولي رفيع عينيه لدى سؤاله عن احتمالات هذا المجتمع. وهو يقول: ''لن أحبس أنفاسي. هل تقوم آسيان بإنجاز أي شيء في الوقت المحدد''؟
يقول مايكل بورتر، الأستاذ في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفرد، إنه يشك في أن لدى آسيان ثقلاً وتأثيراً كافيين لدفع الدول الأعضاء لتنفيذ رؤيتها الجريئة. وهو يقول: ''إن العمل الجماعي، خاصة بين مجموعة من البلدان المتباينة، يحدث فقط إذا كانت هناك إرادة سياسية قوية وقدرة مؤسسية كافية لإحداث التغيير''.
وقد توصل فريق أكاديمي في جامعة سنغافورة الوطنية إلى النتيجة نفسها في تقرير حديث، مشيراً إلى أنه لم يكن قد تم في نهاية عام 2010 تنفيذ ما نسبته 20 في المائة من الاستعدادات التنظيمية والتشريعية التي كان من المزمع تحقيقها في عام 2009، والسبب الرئيس في ذلك عرقلة البلدان الفردية لها.
والأهم من ذلك، أن الدراسة تحدت الفكرة القائلة بأن الأداء الاقتصادي للمنطقة كان قوياً، ملاحظة أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد ارتفع بمعدل متوسط قدره 2.3 في المائة سنوياً خلال العقد المنصرم، وهو أعلى قليلاً من المعدل العالمي. وهذا يدل على أن قدراً كبيراً من النمو كان نتيجة الزيادة في عدد السكان وليس نتيجة للتحسينات التي طرأت على الإنتاجية.
يقول دونالد إمرسون، مدير منتدى جنوب شرق آسيا في جامعة ستانفورد، إن بعض المصاعب التي تواجهها ''آسيان'' تنبع من تشرذمها ومن موقعها بين الهند والصين، الأمر الذي تركها من دون إحساس بأن لديها هوية أصلية، خلافاً لجاريها العملاقين. يقول إمرسون: ''لقد تم اختراع جنوب شرق آسيا من الخارج إلى الداخل ومن الأعلى إلى الأسفل. إنها هوية مصطنعة. وبمعنى من المعاني، كانت لديك الصفة قبل أن تكون لديك الحقيقة الواقعة. وهذه حقيقة ما زالت تتشكل في نواح كثيرة''.
تتضمن تلك الحقيقة الواقعة فروقات واختلافات شاسعة. فمن حيث الثروة، تنتج سنغافورة ناتجاً محلياً إجمالياً للفرد قريباً من المستويات الأمريكية، بينما ما زالت بورما وكمبوديا ولاوس من بين أفقر البلدان في العالم. كما أن قليلاً من البلدان الأعضاء في ''آسيان'' ديمقراطيات، ومعظمها ليست كذلك. وتقوم سنغافورة ببناء عمل دولي في مجال التحكيم، بينما ينتشر الفساد والتدخل الرسمي بالاستقلال القضائي على نطاق واسع في بلدان أخرى. ويقول أحدث تقرير للجمعية الآسيوية لحوكمة الشركات إن قوانين الأوراق المالية في أندونيسيا لا تمنع التداول المبني على معلومات داخلية والتلاعب بالسوق. ويقول التقرير: إن مكتب المدعي العام يعتبر واحداً من أكثر المؤسسات فساداً في إندونيسيا، بينما يمكن رشوة القضاة دائماً تقريباً''.
لقد أسهمت هذه الاختلافات الثقافية، والقانونية والإدارية في تطور ما يدعى بالطريقة الآسيوية – وهي نظام للتقدم بالإجماع. وذلك يعني عقد مئات الاجتماعات سنوياً بين المسؤولين ووزراء الدول الأعضاء، الذين ينبغي أن يوافقوا بالإجماع قبل عمل أي شيء. والقصد من ذلك هو تجنب أي انطباع بأن البلدان تتدخل في شؤون بعضها البعض. لكنه يعني أيضاً أنه لا توجد أية آلية لاستجماع قوى المتقاعسين أو لحل الخلافات التي تتعلق بالتنفيذ.
والنتيجة هي أن الاتفاقيات تحقق اقل مما تعد به أو تثير خلافات مزعزعة للاستقرار بعد أن يسري مفعولها ويصبح أثرها واضحاً. فعلى سبيل المثال، لم تقم البلدان الأربعة الأشد فقراً حتى الآن بتطبيق اتفاقية التجارة الخاصة بـ''آسيان'' بشكل كامل خشية ألا تكون قادرة على التنافس مع جاراتها الأكثر ازدهاراً منها. وأصرت بلدان كثيرة أخرى على وضع قوائم بمنتجات ''حساسة'' مستثناة تملأ مئات الصفحات. ومما يدعو للسخرية أن ميثاق هذه المجموعة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يشتمل على أية آليات للتطبيق، ولذلك وقعت عليه بحماس الطغمة العسكرية الحاكمة في بورما، والشيوعيون في فيتنام والملكية المطلقة في بروناي.
مقاومة التغيير منتشرة على نطاق واسع. فقد تمت عرقلة إبرام اتفاقية نهائية حول خفض التعرفات الجمركية الخاصة بالتجارة في البضائع بين الدول الأعضاء بسبب حدوث خلاف لا علاقة به بالموضوع حول تجارة الأرز بين تايلاند والفلبين، كما حدثت احتجاجات غاضبة في عدة بلدان حول اتفاقية تجارية مع الصين.'' إن دولتنا بأيدي الصينيين والكوريين،'' هذا ما قاله رئيس شركة إندونيسية للأسهم الخاصة لـ''فاينانشيال تايمز'' بعد أن تم إبرام اتفاقية مع الصين. وهناك عوائق كثيرة لا تتعلق بالتعرفات. فقد تخلت خطوط إير آسيا أخيراً عن خطط لتنفيذ مشروع مشترك في فيتنام بسبب التدخل الحكومي بهدف حماية خطوطها الجوية المملوكة للدولة من منافسة غير مرحب بها.
غير أن ''آسيان'' تحدت توقعات متكررة بأنها سوف تنهار أو تتلاشى. بالفعل، فقد كان هناك تقدم حقيقي. فقد لا تكون التجارة الداخلية حرة تماماً، لكن 99 في المائة من البضائع العينية تنتقل من دون تعرفات بين البلدان الكبرى. وتظل أسواق رأس المال منفصلة بواسطة الحدود والعملات لكن من المتوقع قريباً حدوث تداول محدود في الأسهم عبر الحدود، رغم أن ذلك سوف يقتصر على البلدان الكبرى الأعضاء. ولا توجد هناك حرية في استخدام الأجواء، لكن المنافسة المحدودة بين شركات الطيران العاملة بين العواصم الوطنية وبعض المدن الكبيرة الأخرى ساعدت على إنتاج قطاع قوي للنقل الجوي الرخيص تتنافس فيه خطوط طيران إير آسيا مع خطوط منافسة لها مثل ''سيبو باسيفيك'' في الفلبين وخطوط تايجر الجوية في سنغافورة.
يقول تاي هوي من بنك ستاندارد تشارترد في سنغافورة إن هناك الكثير من الفرص لتكامل هذا التجمع المتباين، حيث تعمل سنغافورة كمركز للخدمات، وتعمل تايلند وماليزيا كمركزين متقدمين للتصنيع، وتعمل اندونيسيا وفيتنام كقاعدتين للإنتاج ذي الكلفة المتدنية، وتستفيد جميع الأطراف من السلع التي تنتجها المنطقة ومن الموارد الطبيعية التي تتوفر عليها.
وفي بالي، فإن لدى ''آسيان'' فرصة لكي تثبت أن بإمكانها إحداث مزيد من التغيير من خلال التوضيح بجلاء أن التكامل الاقتصادي سوف يحدث، وفي الوقت المحدد.
لكن تاي هوي ما زال غير مقتنع بأن زعماءها سوف ينجزون هذا التغيير هذه المرة. إذ يقول: ''ربما كانت آسيان ككيان شديدة التنوع لدرجة لا تمكنها من إحداث هذا التحول''.