عندما تختلط أوراق الأزمة
كان هناك اتهام بأن الأراضي البيضاء هي السبب والمتسبب في أزمة الإسكان، ومن ثم برزت مقترحات وحلول؛ وكان وضع الرسوم على هذه الأراضي أحد الحلول المقترحة. هذا المقترح ما هو إلا نوع من أنواع العقاب الضريبي. الرسوم على العقار لا يتم تشريعها إلا مقابل خدمات محددة أو عندما تكون المدينة معتمدة على الرسوم لإدارة شؤونها جزئيا أو كلياً، وهذا ليس واقعنا.
هل درست عينة لعدد من الأراضي في عدد من المدن عن سبب بقاء هذه الأراضي بيضاء، ومدد بقاءها بيضاء ولماذا؟ لو تمت دراسة ما من هذا النوع، فسوف يفاجأ الباحث بأن هناك أسباب واقعية ومقنعة لبقاء غالبية هذه الأراضي بيضاء، فمثلا:
مساحات كبيرة بقيت بيضاء نتيجة المواريث التي لم تصفى، وتركاتها التي لم يبت فيها. وذلك لأن تصفية التركة تعتمد في المملكة أولا وأخيرا على مبادرة الورثة. والاختلاف فيما بينهم يجمد هذه الأراضي، وما أكثر هذه الاختلافات المتكدسة المتراكمة. إلى يومنا هذا لم نتوصل إلى نظام أو إجراء موحد يطبق على التركة حال وفات المورث. وحتى يتم التوصل إلى حل لهذا الوضع فسيبقى كثير من الأراضي بيضاء.
غالبية أصحاب الأراضي البيضاء لا يجدون تمويلاً سانحاً معقولاً للبناء على أراضيهم. كما يحدث حالياً في كثير من دول العالم ومنها دول الخليج، بنوكها تمول حتى 80 في المائة وضمانهم هو الأرض وما عليها، وبشروط تمويل عقلانية واقعية بينما بنوكنا لا تقرض العموم، كما أن شروط الإقراض لديهم ليست عادلة لدرجة أن القرض مركب، ويقال إنه في بعض الحالات تستمر الفوائد على ما دفع من القرض. لو توافر التمويل المشابه للتمويل العقاري في الخليج لرأينا تقلصا كبيرا في مساحة الأراضي البيضاء. وهذا لن يتم إلا إذا فرض على البنوك إقراض عموم هذا القطاع.
الاستثمار في الأراضي، تعتبر آلية ادخار لكثير من المواطنين والمستثمرين التقليديين الذين يخشون الاستثمار فيما لا يعرفون، ولا يثقون بمصداقية البنوك ولا صناديقها. ولا بقطاع الأسهم ولا بتجارة العملات أو الصكوك. لو قُررت رسوم على هذه الأراضي فسيؤدي ذلك إلى آثار سلبية بالنسبة لهذه الفئة، وستضطر إلى نقل أموالها إلى جغرافية أخرى، وهذا ما لا نريده.
هناك أسباب أخرى لبقاء الأراضي بيضاء ومنها: أن مساحات كبيرة من هذه الأراضي تخص مرافق الدولة من تعليم ودوائر حكومية ومرافق عامة ولم تقم الدولة بشرائها من ملاكها أو لم يقوموا بالاستفادة منها، علما بأنه مر على البعض منها عقود. وسبب آخر مهم له دور في بقاء الأراضي البيضاء هو المساهمات المتعددة المتعثرة التي لم تتم تصفيتها أو لم تحل مشاكلها؛ لهذا فأجهزة الدولة جزء من المشكلة.
الاستنتاجات المتسرعة لقضايا مهمة ومعقده من هذا النوع تضر المصلحة العامة؛ وكل ما نخشاه ألا يكون الطرح المكثف الحالي لكثير من المساهمات في المزاد ردة فعل لما نشر وأشيع عن وضع رسوم على الأراضي البيضاء. وأراد أصحاب المساهمات كما يقال.. جدعها في حلق المشتري!!
الأزمة السكنية في المملكة كان يمكن ألا تكون بهذه القسوة وبهذه الاستمرارية، والسبب في تفاعلها.. القديم الجديد هو أننا إلى جانب أسباب أخرى.. لم نوفق في وضع السياسات المالية والإدارية المناسبة التي تؤدي إلى ترسيخ تمويل المشاريع السكنية كمفهوم محلي، واكتفينا بصندوق التنمية الحكومي الذي نجح وأبلى بلاء حسنا، إلا أن الطلب أكثر بكثير من إمكانات الصندوق، ولهذا كان الأحرى إدخال البنوك التجارية المحلية في هذا المجال فرضاً وقراراً.
أزمة الإسكان ليست سعودية، وليست إقليمية بل عالمية. وستستمر وتتذبذب حدتها من دولة إلى أخرى. سببها الرئيس زيادة السكان المطردة، والهجرة إلى المدينة، وارتفاع معدل التضخم وانخفاض معدل الدخل في غالبية دول العالم، هذه أزمة معقدة ومركبة؛ حلها لا يتأتى بإنهائها وتصفيتها وإنما بالتفاهم معها بلغة السياسات المالية والإدارية. المواطن والمستثمر يمكنهما القيام بذلك إذا قامت بنوكنا بتمويل هذا القطاع التمويل المعقول والمرن للجميع، ويجب تطويع بنوكنا وصناديقنا لهذا الغرض.