صعوبة البحث عن «وطن»!
كثرت الكتابات الأنثروبولوجية الاجتماعية والسياسية، وكثرت المصادر اللغوية والجغرافية، التي تتحدث عن: ''الوطن'' و''المواطن'' و''المواطنة''، معنى وتعريفا، وإن كنا نجد إجماعا على أن ''المواطنة'' هي التعبير الحقيقي عن الانتماء الصادق للأرض والقيم والمصير ضمن الوطن الواحد وموروثاته، في ارتباط انتماء تاريخي عميق الجذور؛ كون الوطن هو المستقر الذي يعيش فيه المواطن آخذا ومعطيا.. يفديه بكل غالٍ.. ولا يتنازل عنه إلا بدم أو طرد أو ظلم.
كان ''الوطن'' فيما مضى لا حدود له، كان يكفي الإنسان أن يجد بقعة جغرافية ذات بيئة مناسبة لمعاشه فيستوطنها، ربما إلى الأبد أو إلى حين.. كحال البدو الرحَّل فيما سبق، وقد ينتقل إلى موطن آخر دون أي عوائق أو موانع.
ثم قُسِّمت الأرض بفعل فاعلٍ، أو انهزامٍ لأهل الأبصار في الأمصار، واحُتلت ''الأوطان''! حتى ظهرت قارات، وتشكلت الدول من المنتشرين السائحين في الأرض، ورُسمت الحدود بالسنتيمتر والأمتار.. وحُددت الأوطان، فمن رضي فليبقَ ''مواطنا''، ومن شذَّ فليشذ إلى بقعة/ موطن آخر! فاستقر الناس في ''أوطانهم''، وتأقلموا جيلا بعد جيل مقتنعين أنهم يعيشون في ''وطن''.
ومنذ ذلك الوقت أصبح البحث عن وطن آخر غاية في الصعوبة! ليطرح السؤال نفسه هنا: إذا كانت الأجيال قد استوطنت مواطنها وزرعت ذكرياتها وأمجادها وموروثاتها وتاريخها وعاداتها، وسورت نفسها بعقيدة وفلسفة ورؤى، لماذا تبحث إذاً عن ''وطن'' آخر، والأوطان كافة متشابهة في قوانينها التي تفرض على المواطن واجبات مقابل حقوق ممنوحة له؟ بمعنى آخر، ما هي ''المواطنة''؟ هل المواطنة وثيقة يحملها الأفراد ويبرزونها في المناسبات لتأكيد قانونية رعويتهم؟ أم هي أعمق من ذلك الشكل القانوني؟ فالمواطنة هي التعبير عن الانتماء للأرض والقيم والتاريخ والمصير، بالتالي، الدولة لا تستطيع أن تفرض المواطنة، بل لا بد للمواطنة أن تتركز في النفس كمشاعر وذكريات وقناعة وهوية.. حتى المؤسسات التعليمية لا تستطيع أن تفرض الوطن على الإنسان من خلال منهج أو بحث علمي؛ فالمواطنة مشاعر نابعة من قناعة وعاطفة وتراث.
من هنا، يمكن القول إن مسألة الهجرة (أو التهجير) تؤثر على مواطنة الفرد سلبا من خلال هبوط الوعي الوطني أو سقوط الانتماء. فمسألة الهجرة في طلب الرزق أو أمور الدنيا، كذلك مسألة التهجير الناتجة من عقوق السلطة لأبنائها، وعدم تحقيق التكافؤ في الفرص وانعدام الحوافز وغيرها.. كل ذلك يشكل عامل هدم للمواطنة في نفوس الأفراد، وكذلك الجماعات، والذي لا بد أن يؤدي بدوره إلى هدم المجتمعات والدول. وظاهرة هجرة اليد العاملة من مكان إلى آخر طلبا للرزق أو الأمن أو الاثنين معا، كذلك، هجرة الأدمغة والمفكرين طلبا لحرية التعبير والحقوق الإنسانية، ناهيك عن هجرة رؤوس الأموال، هذه الظواهر، التي استفحلت في عالمنا العربي والإسلامي كنتيجة للنُظم الاستبدادية التي علقت المشانق، ووسعت السجون، وترقت في فن التعذيب الجسدي والنفسي، وحكمت بالحديد والنار، فغسلت العقول، وشوت الألسن، وحطمت الأقلام على رؤوس أصحابها. بدل أن تحقق للمواطن حرية الحركة والتعبير، والكسب والأمن والكرامة، وحقوقه كمواطن؛ حتى يسهم ويجاهد بحس وطني وشعور صادق بواجب المواطنة ومسؤولياتها الملاقاة على عاتقه.
فالمواطنة لا تتحقق بمجرد الحصول على الوثائق الرسمية الشكلية، فالفارق لا يزال قائما بين صدق الانتماء إلى الأرض والتاريخ والمصير وبين المواطنة كأوراق رسمية.. إذ إن حاملي الهوية ليسوا جميعهم مواطنين!