موجة التغيير صوب «المعاطف الزرقاء»!
ما فتئ مسؤولو المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني يخلعون أشمغتهم الحمراء ويرتدون قبعات ومعاطف زرقاء للظهور بمظهر ''العامل المهني'' في زياراتهم التفقدية ومشاركاتهم العامة أمام عدسات الإعلام. لكن هذا التحول السحري من ''الحمرة'' إلى ''الزرقة'' لم يتحقق طوال أيام الدورة الخامسة من منتدى الرياض الاقتصادي التي عقدت في كانون الأول (ديسمبر) 2011. بل يبدو أن ''حمرة'' الإحراج طغت على ''وجنات'' مسؤولي المؤسسة الذين نبههم منظمو المنتدى إلى أنهم كانوا يطرحون مداخلات على نسخة قديمة من إحدى الدراسات وليس على نسختها الأحدث التي نوقشت في الجلسة!
نشكر القائمين على منتدى الرياض الاقتصادي على هذا التنبيه، وعلى سببين آخرين: أولهما، استمرارية عقد هذه الفعالية السنوية بكفاءة ومهنية عالية أدت إلى طرح الأفكار وإثارة النقاشات التي تهم المصلحة الوطنية. وثانيهما تبني المنتدى في دورته الخامسة عددا من التوصيات، من ضمنها إعادة هيكلة المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وهي الفكرة التي سبق أن طرحتها في ''الاقتصادية'' في تاريخ 31 تموز (يوليو) 2011 ضمن مقال ''الخدمة المدنية + العمل = وزارة الموارد البشرية'' (الجزء الأول).
فقد طرح المنتدى في الدورة الخامسة 23 توصية ينوي رفعها إلى المجلس الاقتصادي الأعلى، من ضمنها إعادة هيكلة المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، بحيث تتولى المؤسسة التنظيم والإشراف على شؤون التدريب الفني والتقني والمهني، فيما يتمكن القطاع الخاص من القيام بدوره في هذا المجال، مع إلحاق الكليات التقنية والمعاهد العليا التقنية للبنات بالجامعات السعودية، حسب مواقعها الجغرافية، وإعادة هيكلة الكليات التقنية وتحويلها إلى كليات هندسة تطبيقية. وكانت هذه التوصية قد جاءت بعد مناقشة إحدى دراسات المنتدى التي خلصت إلى:
• أن 70 في المائة من عيّنة الخريجين في التعليم الفني والتدريب المهني تفضل الالتحاق بالوظائف والأعمال المكتبية بدلا من الفنية والتقنية.
• ارتفاع نسبة التسرب بين الملتحقين بالتعليم الفني والتدريب التقني.
• تزايد الفجوة المالية بين أجر العامل الفني والتقني السعودي والوافد، وضرورة سدها عن طريق دعم صندوق تنمية الموارد البشرية.
• وجود فرص وظيفية أمام العمالة الفنية السعودية تتجاوز خمسة ملايين في قطاع المهن الأساسية المساعدة بحلول عام 2014.
وبالنظر إلى نتائج الدراسة والنقاشات التي دارت في المنتدى، فما زلت متمسكا ومقتنعا بفكرة إعادة هيكلة مؤسسة ''المعاطف الزرقاء''، فنحن لدينا ثلاث مؤسسات حكومية معنية بالتدريب (المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وصندوق تنمية الموارد البشرية ومعهد الإدارة العامة). ولهذا، طرحنا سيناريوهات لدمج هذه المؤسسات، أحدها كان دمج المعهد والمؤسسة والصندوق لإنشاء كيان تدريبي كبير يسمى ''مؤسسة تنظيم التدريب'' تتخلى عن مهمة تنفيذ التدريب بنفسها وتسند كل مهام تنفيذ التدريب إلى مراكز تدريبية خاصة معتمدة، على أن يقتصر دور ''المؤسسة الجديدة'' على ضبط سوق التدريب وتنظيمها، أي الترخيص للمراكز التدريبية والبرامج التدريبية والمدربين ومراقبة أداء سوق التدريب مع توفير التمويل لأصحاب العمل لتقديم البرامج المنتهية بالتوظيف.
وكان المقترح نقل الكليات التقنية التابعة للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني إلى وزارة التعليم العالي، على أن يتم ذلك عن طريق ثلاثة خيارات، أحدها أن تتبع كل كلية لأقرب جامعة سعودية في منطقتها.
إلا أن المتتبع لمسيرة التدريب الفني والمهني في السعودية، سيلاحظ جهودا حثيثة للحكومة لكنها لم تفض إلى مخرجات تتوافق مع التطلعات المنشودة أو تستوفي حاجات سوق العمل. فقد كان التدريب التقني والمهني عندنا مشتتا بين ثلاث وزارات في الماضي: وزارة المعارف (التعليم الثانوي الفني بأنواعه الصناعي والزراعي والتجاري)، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية (مراكز التدريب المهني)، ووزارة الشؤون البلدية والقروية (معاهد المساعدين). ثم تقرر في حزيران (يونيو) 1980 توحيد الجهة المشرفة، حين صدر الأمر الملكي ذو الرقم 30/م، القاضي بإنشاء ''المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني'' وإلحاق المعاهد الفنية ومراكز التدريب المهني بالمؤسسة.
وطوال هذه الأعوام الثلاثين ونيف، لم تتوقف مبادرات التغيير، ففي عام 2005 قرر مجلس الوزراء إلحاق قطاع التدريب المهني للبنات بالمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني ثم وافق المجلس على إعادة تنظيم المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني عام 2007، ومن ضمن ذلك تغيير اسمها من ''المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني'' إلى ''المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني''.
إنني أتمنى من المجلس الاقتصادي الأعلى حين يستعرض توصيات الدورة الخامسة من منتدى الرياض الاقتصادي أن يعتمدها كي تتحول إلى قرارات تطبق على أرض الواقع، إذ يجب أن يدرك ذوو ''المعاطف الزرقاء'' أن تغيير المؤسسة لا ينحصر في تغيير الاسم أو الملبوس، إنما المطمح هو التغيير الإداري والتنظيمي (الجذري) الذي سيؤدي إلى تغيير مستوى التدريب ومخرجاته لتتماشى مع العصر وسوق العمل. وإلا فماذا يعني أن تواصل المؤسسة ''الزرقاء'' تخريج طلاب وطالبات ويطالب القطاع الخاص بإعادة تأهيلهم؟ أين الخلل؟