الأراضي البيضاء.. والشورى
نشرت ''الاقتصادية'' بتاريخ 11/2/2012 أن مجلس الشورى قام برفع توصيةٍ إلى خادم الحرمين الشريفين، ضمن إطار نظام تطوير الزكاة الجديد، تدعو إلى فرض ضريبةٍ بنسبة تحصيل تقدر بين 15 و20 في المائة على الأراضي البيضاء غير المطورة.. مشيراً إلى أن هذا النظام إن صدر سيكون المالك بين خيارين، إما أن يؤدي الضريبة التي تذهب بشكل زكاة، وإما أن يطور الأرض وينميها... إلخ.
نستغرب قيام مجلس الشورى الموقر برفع توصية إلى المقام السامي عن موضوع بهذه الأهمية والتعقيد قبل أن يدرس دراسة شاملة. إن هذا الموضوع له مساس بالملكية الخاصة وما لها من قدسية وأهمية في شريعتنا، يبدو أنه لم يؤخذ في الاعتبار أن الأراضي البيضاء بنوعيها المطور وغير المطور تختلف ظروفها ومشكلاتها وأهميتها باختلاف المناطق. المملكة متباعدة الأطراف ومتعددة المحافظات والمقاطعات ذات الظروفٍ المختلفة، ما يمكن تطبيقه في منطقة ما، قد لا يتناسب مع المناطق الأخرى. توصية من هذا النوع كان يجب أن تعتمد على نتائج دراسة شاملة كاملة مفصلة لوضع الأراضي البيضاء المطور منها وغير المطور، هل هذه الأراضي في هذه المناطق البيضاء يعد مصدر ضرر، وما هذه الأضرار وحجمها ونوعها، ولماذا هذه الأراضي لم تطور وما مسببات ذلك؟ كان على مجلس الشورى الأمر بدراسة حقلية مفصلة. عندئذ يمكن أن يُحكم على وضع هذه الأراضي وأضرارها وعلاج هذه الأضرار، عندئذ يرفع إلى المقام السامي بذلك. وقد يسبق ذلك طرحها على الرأي العام ليبدي وجهة نظره كذلك.
عندما يدعو العضو الموقر إلى فرض ضريبة بنسبة معينة (مثل 15 إلى 20 في المائة)، الحديث عن الضريبة خارج الموضوع. فالضريبة توضع مقابل خدمات.. أي أن الضريبة وسيلة لتمويل الخدمات، وهذا يتم في المدن التي لديها ترخيص لإدارة شؤونها المحلية من شوارع وخدمات وما شابه ذلك. وكذلك الرسوم تفرض على الأراضي والعقارات لتغطية تكاليف التنمية التي تقوم بها الدولة، علما بأن جميع الخدمات لتطوير الأرض يقوم بها المطور، أي أن الدولة ليس لها أي دور في الصرف على الأرض، فمفاهيم الزكاة والرسوم والضريبة يجب عدم حشرها في هذه القضية العقارية.
دراسة أولية للأراضي البيضاء وعدم تطويرها سيُبين أن كثيراً من هذه الأراضي لا يجد صاحبها التمويل، بنوكنا لا تمول إلا بطريقة اختيارية وبشروط مكلفة أو لعملاء خاصين، إذن ماذا يعمل صاحب الأرض، يتركها بيضاء! كما أن هناك كثيرا من هذه الأراضي حكومية من مدارس ودوائر ومحاكم وبلديات وبريد وشرطة، وغيرها من الأجهزة الحكومية من تعليمية وجامعية... إلخ، من باب أولى لماذا لا تطور هذه المواقع. إذن الدولة جزء من المشكلة! كما أن هناك كثيرا من الأراضي مطورة أو غير مطورة متعثرة بسبب مشكلات المواريث، فالقضاء لدينا في المملكة ليس سريع البت، كثير من قضايا المواريث تتعثر ولا يجدون في القضاء ملجأ سريعا كما هي في الدول الأخرى، التي لديها تقنين واضح لهذا الأمر. هناك أراض تخص المساهمات المتعثرة وما يعتريها من مشكلات وخلافات... إلخ. إذن هناك أسباب لبقاء هذه الأراضي بيضاء. فمن الصعب معاقبة المواطن على أمر الدولة أولى بحله.
لقد ربطوا أزمة الإسكان بالأراضي البيضاء، وهذا كذلك يعتبر نوعا من الإجحاف، لأن الطبقة الرئيسة التي تعاني أزمة السكن هي الشريحة التي تعتمد على دخلها الشهري (أي المرتب)، وليس لديهم مدخرات ما عدا راتبهم الشهري سواء ثلاثة آلاف في الشهر أو 20 ألف ريال.. أصحاب هذا المرتب لا يعنيهم ارتفاع أسعار الأراضي البيضاء، مرتبه لا يسمح له بها. وإنما أزمته يمكن أن تحل بكل بساطة إذا.. سُمح وشُجع ونُظم عقار الشقق. فيمكن لمن مرتبه من خمسة آلاف وأقل أو أكثر أن يشتري شقة قديمة أو جديدة بمبلغ يناسبه ويناسب مرتبه يدفع بعضه والباقي يقسط. إن أزمة السكن تخص ولا تعم، والمملكة تعد من أكثر الدول توفيراً للسكن لكثير من شرائح المواطنين منذ أن بدأ البنك العقاري أعماله في السبعينيات، وكذلك برنامج المنح كان له دور فاعل في تحجيم أزمة السكن.
يجب أن نعي جيداً أن تجارة الأرض والعقار عموماً هي أكثر أنواع الاقتصاد التصاقا بالمواطن السعودي، وهي المأمن الأول والأخير لمدخراته. لقد رأى من تجارة الأسهم ما أدماه ومن تجارة العُمل ما أزعجه، ولا يريد أن يتذكر المنتجات البنكية التي هي أقرب ما تكون إلى الخدع. فيجب علينا ألا ندخل في قضايا من هذا النوع دون فهم وتفهم للمواطن وإلا قد يهرب رأس المال كما هرب من قبل إلى بلاد أخرى.