«رسالة الأخلاق»
إذا كان منطق الحجة والبرهان يتواصل مع النفس حتى ترجع بالعلم عن الجهل، وتخرج من الظلمات إلى النور، ومع هذه الحقيقة التي ذُكرت ها مثلات كثيرة في القرآن في مناظرات الرسل عليهم الصلاة والسلام لقومهم، وما كان عليه الأنبياء والرسل من عناية بمقام العلم، الذي أشرفه العلم بالله وحقه سبحانه، فإنك تقرأ في تلك الرسالات التي ذكرها القرآن عناية الرسل بالأخلاق في مقام التصحيح والإصلاح، وتقرأ في أدب وهدي أولئك الأنبياء عليهم السلام من كرم الأخلاق وشريف التعامل ما يقاصر به كثير من الجدل والعناد إلى مقام الاستجابة والإيمان، إن مجموعة من الناس تحركوا لدخول الإسلام «بنور العلم والحجة»، وآخرين «بنور الأخلاق ورسالتها» التي تتضمن مقاماً من العلم، وتهدي إلى مقامات من المعرفة والإيمان، وإن كانت تتباعد عن الجدل، وعن هذا فإن الأنبياء هم أئمة العلم وأئمة الأخلاق، بل ترى في نصوص الشريعة تلازما بين علم الأنبياء ومقام الأخلاق، وترى في نصوص الكتاب والسنة ندبا إلى اتخاذ الأخلاق منهجا في أخذ العلم والحمل له؛ لأن النفس البشرية بقدر ما تميل إليه من تصديق «البرهان العلمي» فإنها تميل طبعا وفطرة إلى قبول «الأدب الأخلاقي» الذي يباعد النفس عن الجهل والعناد، وعن هذا قال صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (والحياء شبعة من الإيمان) بل جعله خيرا مطلقا في قوله في حديث عمران في الصحيح: (الحياء خير كله أو قال: كله خير).
إن الحياء في مراد الشريعة ليس ضربا من العجز أو الفشل مع الذات بل هو ذلك النَفَس من الأدب الذي يُمَسِّك الإنسان بفطرته التي أكرمه الله بها، ويرتفع به الإنسان عن مقام الجهل بتجاوز موازين العدل والإحسان، إن الحياء هنا لا يغلق على النفس عملا ولا يقطع حركة فاعلة بالخير، لكنه يحاصر هوج النفس عن الركض بشيء من الوهم أو الاستعداد للشر، وعن هذا كان صاحب الرسالة عليه السلام على مقام من الحياء ترك أثرا في تعديل كثير من النفوس الجاهلة التي لم تعرف مقامه في كثيرمن الأمر .. ولما نادى قومٌ رسول الله عليه الصلاة والسلام من وراء الحجرات على قدر من إسقاط الحياء في لغة الخطاب جاء القرآن محدثا رسول الله عليه الصلاة والسلام بحقيقة الاتصال بين «الأخلاق والعقل» في قول الله: ?إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون?.
إن الفشل الأخلاقي يعني فشلا مع العقل وإدارته بوعي صحيح، وإذا تحولتَ في القراءة إلى عالم أهل الإسلام وجدت أن الكثير دخلوا الإسلام بأثر صادق من خلق المؤمنين، الذي أمرهم القرآن أن تتماسك نفوسهم مع كريم الأخلاق بالعدل حتى لحظة العداون عليهم: ?ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى?.
وحتى لا تكون الأخلاق مكافأة تُختصر عن مقام القيم والمبادئ قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (ليس الواصل بالمكافيء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)، إن هذه الكلمات النبوية تبلغ في إشارتها مقاما من التشريع في الحقوق الأخلاقية التي تكون على قدر من عزم الشريعة وليست من الفضل الذي يسع الناس فيه التخيُّر، وإن كان ثمت مقام فتحت الشريعة فيه أفق المسارعة في كمالات الأخلاق في وسطية حفظت مقام الخلق في قائمة القيم والمبادئ الإيمانية، وتُرك للنفس في مقام آخر الحركة الفاضلة الصاعدة إلى درجات الخيروالبر، والله الهادي.