الحج.. تواضع وخشية ودروس في تجمع هائل لأجناس وثقافات مختلفة
اغتنمنا الفرصة في الحلقة السابقة وتحدثنا عن مكارم الأخلاق في موسم الحج التي يتعلمها الحاج ويمارسها في ذلك الركن العظيم من أركان الإسلام خاصة أنه يمارس كثيراً من المناسك ويمر بكثير من الأماكن والمشاعر منذ أن يخرج من بيته ويعبر الميقات ويحج ثم يعود إلى بلاده، وذكرنا أهم تلكم المكارم التي هي: (توحيد الله تعالى وطاعته)، (طاعة رسول الله)، (الانضباط)، (الصبر)، (البر)، (الاستقامة)، (الكرم)، (الالتزام بحق الطريق) ثم الاستفادة بما سمح به الله تعالى من منافع من التجارة دون أن تتعارض مع مناسك الحج والالتزام بالحلال وكنا قد عَرّفنا الحج والحج المبرور ومتى أمرنا بالحج؟ وما يجب أن نتجنبه من الرفث والفسوق والجدل ، والآن نكمل بإيجاز ما تبقى من مكارم الأخلاق ومنافع الحج.
ـ مكارم الأخلاق الأخرى ـ
أراد الله تعالى أن يُعلم المسلمين مناسك الحج الصحيحة فأدى محمد صلى الله عليه وسلم حجة الوداع – قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى – ليتعلم المسلمون نُسك الحج وما يقولون وما يفعلون وهو القائد والمعلم الأول الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق وقام عليه السلام بما أُمر به خير قيام وحج معه أكثر من مائة ألف مسلم منهم عدد كبير من زوجاته وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم فرأوا ما فعل وسمعوا ووعوا ما قاله فاتبعوه ونقلوا ذلك للتابعين ثم من بعدهم من الأجيال وكل تلك النُسك المتعددة في أماكن وأوقات مختلفة تصور كيف يتصرف المسلم بالقول الحسن والسلوك القويم لذا كانت للحج دروس كثيرة وجهاد بالنفس والجسم وبالعمل الدقيق الصالح الذي يقوده العلم البيّن فينتج عن كل ذلك الأخلاق الكريمة التي ذكرناها آنفاً إضافة إلى ما بقي منها وهي:-
التواضع وخشية الله تعالى: يلبس الحاج لباس الإحرام المتواضع دون زينة أو لون متميز ودون أن يأخذ أي شيء من شعره وأظافره، ويشبه الإحرام الكفن فيتذكر الحاج لقاء ربه فيزداد خشية ووجلاً من الله تعالى ويتذكر الآخرة والقيامة وهو يرى آلاف الحجاج في صعيد واحد يملأون الساحات والمشاعر قياماً كأنهم في يوم القيامة فيزداد تواضعه لله وخشيته منه.
حُب الاجتماع: يختلط الحاج بأعداد هائلة من الناس من أجناس وثقافات مختلفة منذ أن يترك منزله ويتعدى الحدود حتى يصل مكة المكرمة ثم يقفل عائداً إلى بلادة ومن خلال ذلك الاختلاط يتعلم دروساً كثيرة من أهمها حب الاجتماع بالناس وعدم الانعزال عنهم ويُميز بين الأخلاق الفاضلة وعكسها من غريب الأخلاق فتتضح له أهمية التمسك بالخلق الكريم ونبذ فاحش القول وسوء السلوك، فلا يزاحم ولا يبصق على الأرض ولا يستريح أو ينام على قارعة الطريق ولا يكرر الحج وهو يرى هذه الجموع المتزايدة كل عام.
التمسك بالوحدة: الحج عبارة عن مؤتمر عظيم، يُعطي الفرصة ليتجمع قادة المسلمين وعلماؤهم ومفكروهم ليحلوا مشاكلهم وينسقوا جهودهم فيما بينهم في جو من الأمن والسلام بعيداً عن الغوغائية والعنصرية والجدل والعنف الذي يولد الكراهية، ومن خلال هذا التجمع الكبير يتعلم الحاج أن المسلمين أمة واحدة يعبدون إلهاً واحداً ويتجهون لقبلة واحدة، وحتى المسلمين الذين لم يتمكنوا من الحج يتذكرون إخوانهم الحجيج فيدعون لهم بالقبول ويصومون يوم عرفة ويعظمون العشرة الأولى من شهر ذي الحجة ويذبحون الأضاحي ويصلون ويلبون ويكبرون الله فترى العالم الإسلامي كله في فكر وتفكير واحد فيدرك المسلم عظمة وحدة المسلمين وتماسكهم وأنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
أهمية خدمة ضيوف الرحمن
وإذ كُنا قد ذكرنا مكارم الأخلاق التي يتعلمها المسلم ويمارسها في الحج ليكون حجه مبروراً فعلى جميع من لهم علاقة بالحجاج من حين استقبالهم حتى دخولهم مكة المكرمة والمشاعر ثم عودتهم أن تكون أخلاقهم سامية ويُحسنوا التعامل والتصرف مع ضيوف الرحمن، فإذا كان المسلم كريماً وهاشاً وباشاً مع ضيوفه فما بالك بضيوف الله تعالى فيجب الترحيب بهم وعدم استغلالهم وتسهيل حجهم وتعليمهم ما يجهلون وترتيب مسكنهم وطعامهم وشرابهم ومواصلاتهم وأن يُدلوهم على كل ما هو صحيح ويُشرح لهم كل ما هو قبيح.
لبيك اللهم لبيك
يُكثر الحاج وكذلك يقوم المسلمون ممن لم يحجوا بالتكبير والتهليل ثم ترديد الكلمة العظيمة (لبيك) التي تعني: إني يا الله قد لبيت نداءك وأطعتك حق الطاعة متذللاً أمامك وجئتك من مكان بعيد وأقبلت عليك بكل جوارحي وروحي وعقلي لا أتذكر إلا أنت وحضرت إلى بيتك لأطوف به كما أمرتني وأتواجد في كل المشاعر ملتزماً بالقرآن والسنة، وهذه الكلمة العظيمة أبلغ من كلمة (نعم) و(سَمْ) التي تعني (السمع والطاعة) و(إبشر) فما أعظمها من كلمة نقولها لله تعالى مخلصين له صادقين في أقوالنا وسلوكنا، نسأله تعالى أن يتقبل من حجاج بيته ليكون حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً وأن ينصر الله المسلمين ويعلي كلمته. وإلى اللقاء في حلقة مقبلة بإذنه تعالى.