التضخم لا يزال أهون الشرور
لا تزال المصارف المركزية الكبرى على مستوى العالم مستمرة في الإعراب عن قلقها إزاء التأثيرات التضخمية غير المباشرة الناجمة عن الجهود التي تبذلها لمكافحة الركود، وهذا خطأ واضح. فعلى خلفية المخاطر السياسية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة على استمرار النمو البطيء بعد أزمة مالية لا تتكرر أكثر من مرة واحدة في كل قرن من الزمان، لا يشكل قدرا معتدلا من التضخم المستدام أمراً يدعو إلى القلق. بل إن الأمر على العكس من ذلك، فلابد من تبني هذا الشكل من التضخم في أغلب المناطق.
ولعل الحجة لمصلحة التضخم المعتدل ''ولنقل بنسبة 4 إلى 6 في المائة سنويا'' ليست مقنعة تماماً لأنها وردت عند بداية الأزمة، حينما أثرت القضية لأول مرة. فآنذاك، وعلى خلفية تردد الحكومة في فرض شطب الديون، فضلاً عن أسعار المساكن الحقيقية المبالغ في تقديرها إلى حد كبير والأجور الحقيقية المفرطة في بعض القطاعات، كان التضخم المعتدل ليصبح مفيداً للغاية.
وبطبيعة الحال، كان الإجماع في ذلك الوقت على أن التعافي القوي أصبح قاب قوسين أو أدنى، وكان من الحماقة أن يتم تبني هرطقة التضخم. ولكني كنت أرى خلافاً لذلك، استناداً إلى البحث الذي قام عليه كتابي أنا وكارمن راينهارت، ''هذه المرة مختلفة''. فبدراسة الأزمات المالية العميقة السابقة، كان لدينا كل أسباب القلق من أن يكون انحدار تشغيل العمالة عميقاً إلى حد الكارثة وأن يكون التعافي بطيئاً إلى حد غير عادي. وكان التقييم السليم للمخاطر في الأمد المتوسط ليساعد في تبرير استنتاجي في كانون الأول (ديسمبر) 2008 والذي كان ببساطة أن ''الأمر سيتطلب استخدام كل أداة متاحة لإصلاح الأزمة المالية الحالية التي لا تتكرر سوى مرة واحدة كل قرن''.
وبعد مرور خمس سنوات، بلغت الديون العامة والخاصة والخارجية مستويات قياسية في العديد من الدول. ولا تزال الحاجة قائمة إلى تعديلات نسبية هائلة للأجور بين الدول الواقعة على أطراف أوروبا ودول القلب. ولكن يبدو أن البنوك المركزية الكبرى على مستوى العالم لم تلحظ ذلك.
والمشكلة هي أن الركود الحالي ليس عاديا، والكثير من الناس لم يبدأوا الاحتفال بعد، ناهيك عن الإفراط في الاحتفال. صحيح أن الأمر لا يخلو من المخاوف الفنية المشروعة من أن يؤدي التيسير الكمي إلى تشويه أسعار الأصول، ولكن انفجار الفقاعات لا يُعَد ببساطة الخطر الرئيس الآن. فالآن تسنح أفضل فرصة للولايات المتحدة لتحقيق التعافي الحقيقي المستدام من الأزمة المالية. ولن يقل الأمر عن كارثة إذا انحرف التعافي عن مساره بسبب التشبث المفرط بشعارات أيديولوجية مناهضة للتضخم، بقدر ما كانت بعض البنوك المركزية مفرطة في التشبث بمعيار الذهب أثناء عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
وتواجه اليابان معضلة مختلفة. فقد أرسل هاروهيكو كورودا محافظ بنك اليابان الجديد إشارة واضحة إلى الأسواق بأن بنك اليابان يستهدف تضخماً سنوياً بنسبة 2 في المائة، بعد سنوات من نمو الأسعار بنسبة اقتربت من الصفر.
ولكن مع ارتفاع أسعار الفائدة الأطول أجلاً الآن بشكل زاحف طفيف، فإن بنك اليابان يبدو وكأنه توقف بشكل مؤقت. ماذا توقع كورودا وزملاؤه؟ فإذا كان لبنك اليابان أن ينجح في رفع توقعات التضخم، فإن أسعار الفائدة الطويلة الأجل كانت لتعكس بالضرورة علاوة تضخم أعلى بالقدر نفسه. وما دامت أسعار الفائدة الاسمية ترتفع بسبب توقعات التضخم، فإن الزيادة تشكل جزءاً من الحل، وليس جزءاً من المشكلة.
بطبيعة الحال، ربما كان بنك اليابان محقاً إذا ساوره القلق إن ارتفعت أسعار الفائدة بسبب نمو علاوة المخاطر، وليس بسبب ارتفاع توقعات التضخم. ذلك أن علاوة المخاطر قد ترتفع على سبيل المثال إذا أصبح المستثمرون غير متأكدين حول ما إذا كان كورودا قد يلتزم بتعهداته. والحل، كما هي الحال دوماً في عالم السياسة النقدية، يتلخص في انتهاج استراتيجية تواصل واضحة ومتسقة وخالية من الغموض.
أما البنك المركزي الأوروبي فهو في منطقة مختلفة تماما. فلأن البنك المركزي الأوروبي كان يستخدم بالفعل موازنته العمومية للمساعدة في خفض تكاليف الاقتراض في الدول الواقعة على أطراف منطقة اليورو، فإنه كان حذراً في التعامل مع التيسير النقدي. ولكن معدل التضخم الأعلى من شأنه أن يساعد في التعجيل بالتعديلات المطلوبة بشدة في البنوك التجارية في أوروبا، حيث تظل قيمة عدد كبير من القروض على الدفاتر عند مستويات أعلى كثيراً من قيمتها السوقية. والتضخم الأعلى من شأنه أيضاً أن يوفر خلفية من الممكن أن ترتفع الأجور في ألمانيا بموجبها من دون أن تهبط بالضرورة في الدول الطرفية.بوسع كل البنوك المركزية الكبرى على مستوى العالم أن تسوق حججاً معقولة لتوخي الحذر. والواقع أن محافظي البنوك المركزية محقون في إصرارهم على الإصلاحات البنيوية وضرورة وضع خطط ذات مصداقية لضبط الموازنات في الأمد البعيد. ولكن من المؤسف أننا لم نقترب حتى من النقطة التي قد تثير رعب صناع السياسات بشأن مخاطر التضخم. وينبغي لهم أن يتركوا الحفل مستمراً لبعض الوقت لا أن يسارعوا إلى فضه.
خاص بـ ''الاقتصادية''
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.