«المترو».. ظاهرة تدعم تحديث المدن العالمية وتوسيعها

«المترو».. ظاهرة تدعم تحديث  المدن العالمية وتوسيعها

قبل نحو قرن ونصف وتحديدا في 9 كانون الثاني (يناير) 1863 أعلن افتتاح أول مترو أنفاق في العالم في العاصمة البريطانية لندن، ولم تزد المسافة التي يقطعها في ذلك الحين عن ستة كيلو مترات بين محطة بادينجتون وفارينجدون.
وتطلب الأمر 29 عاماً أخرى حتى يتم إنشاء ثاني شبكة مترو في العالم في مدينة شيكاغو الأمريكية، وبخلاف مترو لندن الذي انسال في أنفاق تحت الأرض وأطلق عليه اسم "الأنبوب"، فإن المرحلة الأولى من مترو شيكاغو جعلته أول مترو طائر أو معلق في العالم إذ اعتمد على دعائم وكباري تحمله فوق سطح الأرض خلال انسيابه بين طرقات المدينة.
وبحلول الستينيات من القرن المنصرم شهد العالم انتشارا واسعا في شبكات المترو، وتحديثا ضخما للشبكات القائمة جراء الزيادة المستمرة في أعداد سكان المدن، وتأسيس وإنشاء مدن حديثة. وشكّل التوسع في شبكات وأنظمة المترو رمزا من رموز الحداثة والمدن الحضرية الكبيرة، إذ يوجد الآن 53 دولة حول العالم تضم 190 مدينه تعتمد على شبكات المترو.
وقد لعب نظام المترو أو ما بات يعرف بظاهرة المترو دورا كبيرا ورائدا في تحديث المدن وتوسعها، بحيث بات التعريف الأكاديمي السائد للمترو بأنه "نظام نقل الركاب في منطقة حضرية يعتمد على الكهرباء سواء كان تحت الأرض أو فوقها"، وسمح التقدم الهائل في المستوى التكنولوجي لأنظمة المترو في السنوات الأخيرة في إحداث قفزة نوعية في طبيعته كوسيلة مواصلات حضرية.
ويعلق المهندس أندرو روجر المدير العام لقسم الصيانة والتطوير في مترو أنفاق لندن لـ "الاقتصادية" على مزايا مترو الأنفاق كظاهرة عالمية بأنه "حجر الأساس في نظام المواصلات في لندن، وتوقفه يعني الشلل التام لحركة النقل، وخسائر بالمليارات، لكن المزايا الرئيسة له هو كونه وسيلة نقل قادرة على التحرك السريع ونقل عدد كبير من الركاب عبر مسافات قصيرة ومتوسطة، مستخدما الحد الأدنى من مساحة السطح"، ويضيف "نظرا لطبيعة تصميم المترو وخاصة إذا كان تحت الأرض فإن المخطط يصبح لديه درجة أعلى من المرونة، ولا يكون ملتزما بالانحناءات أو التقسيمات التقليدية للشوارع، وهذا لديه انعكاسات اقتصادية مهمة إذ يمكّن الراكب من توفير جزء كبير من الوقت، كما يسمح بالحفاظ على المعالم التاريخية للمدينة دون المساس بها".
فيما يعتبرالدكتور هنري ريمون رئيس قسم التخطيط العمراني في جامعة أكسفورد أنه أضحى من الصعب الحديث عن توسع عمراني للمدن الحديثة دون شبكة مترو متطورة وقابلة للتمدد والتوسع، ويعلل ذلك لـ "الاقتصادية" قائلا إن "الاكتظاظ السكاني يعد إحدى السمات الرئيسة للمدن الحديثة، ومحاولة التمركز السكاني في المناطق الرئيسة في المدينة يدفع للعديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا فإن تمدد المدن دليل على الحيوية والانتعاش، لكن التمدد يتطلب معه نظام مواصلات خاص أوعام لضمان الترابط الدائم بين أجزاء المدينة المختلفة وخاصة العواصم، ويضيف أن شبكات المترو تمثل العنصر الحاسم في ضمان هذا التمدد مع تحقيق ترابط المدينة كوحدة متكاملة، فالمشاريع الراهنة لتوسيع شبكة المترو سمحت بأن تضم مناطق مهجورة ومستبعد السكن فيها إلى العاصمة، ولهذا تأثيره الاقتصادي الكبير.
ونظرا لقدرتها العالية فإن شبكات المترو تلعب دورا رئيسا في الحد من الزحام والاختناقات المرورية في المناطق الحضرية، كما تضمن التنمية الكثيفة والمتجانسة للمدينة بدلا من الزحف العمراني العشوائي الطابع، لكن التركيز على التبعات الإيجابية للجانب السكاني يتطلب جعل شبكة المترو جزءا لا يتجزأ من الشبكة العامة للمواصلات بفرعيها الخاص والعام، مشيراً إلى ضرورة التكامل الإيجابي بين شبكة المترو ووسائل النقل الأخرى.
وفيما يتعلق بعملية تسعير التذاكر مقارنة بغيرها من وسائل النقل تحظى شبكات المترو سواء كانت على سطح الأرض أوتحت الأرض بدعم شديد من قبل المنظمات المدافعة عن البيئة، فاعتمادها على الكهرباء يؤدي لانخفاض ملحوظ في انبعاث ثاني أكسيد الكربون ويحد من التلوث.
وتعلق ديبا تشتارجي المنسق العام لمنظمة البيئة والتكنولوجيا على انتشار شبكات المتروعلى النطاق العالمي لـ "الاقتصادية" بأن الدراسات أثبتت أن المترو هو أفضل وسيلة فيما يتعلق بكفاءة الطاقة فعلى سبيل المثال فإن لترا من البترول يسمح للمترو بقطع مسافة 48 كيلومترا وللحافلات العامة 38 كيلومترا وللسيارات 19 كيلومترا فقط، ولهذا فإن تأسيس شبكات مترو حديثة يسمح لسكان المدن في الاستمتاع ليس فقط بسهولة أعلى في عملية النقل بل أيضا في الحفاظ على بيئة نظيفة.
إلا أن كل هذه الفوائد لا تأتي رخيصة، فأحد الأسباب الرئيسة لتركيز شبكات المترو في المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية، يأتي من الطلب المتزايد على وسائل النقل منخفضة التكلفة. وإذ يبرر الطلب على خدمات المترو ارتفاع التكاليف الرأسمالية للإنشاء فإن العوائد الناجمة عن أسعار التذاكر تغطي فقط جزءا من نفقاته التشغيلية، ومع الأخذ في الحسبان ضخامة الاستثمارات في مثل هذه المشاريع العملاقة والفترات الزمنية الطويلة التي تتطلبها عملية الإنشاء، فإن تمويل مشاريع المترو يأتي في المقام الأول من قبل الحكومات، ولهذا فإن معظم نظم النقل الجماعي تعد غير قادرة على تغطية نفقاتها التشغيلية.
إلا أن هذا الجانب وإن كان يؤدي إلى زيادة الضغوط المالية على الحكومات فإن الخبراء يتفقون على أن المنافع الاجتماعية والاقتصادية للمترو تفوق التكاليف الناجمة عن إنشاء شبكة حيوية وحديثة من نظام المترو شريطة أن تكون مصممة تصميما جيدا ومتكاملة مع وسائل النقل الأخرى، وهذا هو السبب الكامن وراء استعداد الحكومات للاستثمار في أنظمة المترو.
أما رولان ألوجاري من مؤسسة رولاند بيرجر للاستشارات فتحدثت حول الآفاق الاستثمارية في شبكات المترو وأشارت إلى أن الدراسة التي قاموا بإعدادها أخيرا أكدت أن برامج التحفيز الحكومية خلال الأزمات الاقتصادية تقوم على دعم أنظمة النقل الجماعي وخاصة السكك الحديدية، فالسوق العالمي للبنية الأساسية لشبكات السكك الحديدية والمعدات الخاصة بأنظمة السكك الحديدية تنمو بنحو 3.2 في المائة على المستوى العالمي، وستواصل النمو بنحو 2.7 في المائة حتى 2017، وبالنسبة لشبكات المترو فإن نموها سيراوح بين 6-8 في المائة وهو ما يعني أنه رغم التكلفة المالية لهذه المشاريع فإن التجربة أثبتت أن المترو يقع في القلب من أنظمة النقل الجماعي داخل المدن الحديثة.

الأكثر قراءة