«نزاهة» .. التشتت وعدم التركيز حرفها عن الهدف
يأتي تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم أ/65 وتاريخ: 1432/4/13، استشعاراً من قبل القيادة السعودية الحكيمة للمسؤولية الملقاة على عاتقها بحماية المال العام، ومحاربة الفساد، والقضاء عليه، انطلاقاً من قول الله تعالى: "ولا تبغِ الفسادَ في الأرض إن الله لا يُحب المفسدين".
إن المتابع والمراقب لأعمال الهيئة منذ إنشائها حتى تاريخه من مواطنين ومقيمين وغيرهم في السعودية لم يلمس حتى الآن فاعلية الأدوار والمبادرات التي تقوم بها الهيئة في سبيل مكافحة الفساد، ولا سيما حين ربطت تلك الأدوار والمبادرات بأهداف الهيئة، التي أكدت حماية النزاهة، وتعزيز مبدأ الشفافية، ومكافحة الفساد المالي والإداري بشتى صوره ومظاهره وأساليبه، حيث لا يزال الفساد يستشري في أجهزتنا الحكومية على المستوى التنفيذي، وبالذات التي لها علاقة واحتكاك مباشر بالمواطن والمقيم. ولعلي أضرب مثالاً مشهوراً في هذا السياق عن الفساد المستشري في السعودية هذه الأيام وبالتحديد منذ بداية الطفرة الاقتصادية الجديدة التي تشهدها البلاد مع مطلع الألفية الجديدة وتحقيق المالية العامة للدولة لفورات مالية كبيرة، ونحن نعاني الأمرّين من تعثر تنفيذ المشاريع التنموية العملاقة والتأخر في تسليمها في أوقاتها المحددة أو إنجازها بالنوعية والجودة المطلوبتين، حيث إن معظمها إما أن ينجز بنوعية سيئة ورديئة أو بجودة دون المطلوب، ما يتسبب في إهدار المال العام، حيث أصبح اليوم تعثر المشاريع الحكومية وإنهاؤها في أوقاتها المحددة، ظاهرة مقلقة اقتصادياً وتنموياً، وكثيراً ما يصاحبها إطلاق المسؤولين وعودا حكومية من حيث الجودة والنوعية لا تعدو كونها مسكنات لا ترى أغلبيتها النور، الأمر الذي يؤكده الارتفاع المطرد في نسبة المشاريع المتعثرة والمتأخرة، وبمجرد هطول بضعة ملليمترات من مياه الأمطار تكشف لنا عن عورة تلك المشاريع وسوء تنفيذها.
وكما يبدو لي ولغيري من المتابعين لأعمال الهيئة من المواطنين، أن الهيئة تشعبت في أعمالها، ولربما هذا ناتج عن حماسها المفرط لمحاربة الفساد في المملكة بكل صوره وأشكاله في أقصر وقت ممكن، وهذا الأمر يبدو للوهلة الأولى سليما وجيدا، لكن في ظل غياب وجود تعريف واضح وتصنيف محدد للفساد في المملكة، ستظل كلمة الفساد كلمة مطاطة لا يمكن قياسها أو حتى التنبؤ بها، ولعلي أضرب مثالا على ذلك تركيز "نزاهة" في وقت سابق على محاباة المسؤول واعتبار أن ذلك نوع من أنواع الفساد، في حين أن البعض، وأنا منهم، اعتبره نوعا من أنواع النفاق الاجتماعي وليس فساداً، حتى ولو افترضنا جدلاً أن محاباة المسؤول تعتبر فساداً، فهل يعقل أن تعطيها "نزاهة" هذه الأهمية وتخصص لها مساحات إعلانية في الصحف المحلية على حساب ظواهر لفساد أعمق وأكثر أهمية في المجتمع وهدر "عيني عينك" للمال العام.
إن تعدد أهداف "نزاهة" بأكثر من 20 هدفاً وفقاً لرسالتها ورؤيتها واختصاصاتها، لربما أفقدها التركيز، إلى جانب، كما أشرت، حماسها المفرط في مكافحة الفساد الذي أشرت إليه بالشيء الجيد، لكن لا بد من التركيز ووضع أجندة للأولويات، فإن تعثر المشاريع والتأخر في تنفيذها يكلف الوطن والاقتصاد والتنمية والمالية العامة للدولة مليارات الريالات في كل عام، وأثره السلبي في الاقتصاد الوطني والتنمية أكثر بكثير من محاباة المسؤول أو استخدام المسؤول قلما يخص الجهة الحكومية للكتابة به في بيته.
ولعل إحدى سلبيات "نزاهة" ظهورها المتكرر والمكثف في وسائل الإعلام المحلية دونما أي جديد أو إضافة للمواطن أو للقارئ، سوى رصدها قضايا وأحداث الفساد في بلادنا، وعدم الخروج للعامة بحلول شافية ووافية للقضاء على الفساد. كما أن عدم لمس المواطن أي عقاب رادع للفاسدين في بلادنا أفقده الإحساس بالهيئة وجهودها في محاربة الفساد، إذ حتى التشهير بالفاسدين في بلادنا أصبح عليه شيء من التحفظ. الزميل الكاتب سطام الثقيل في صحيفة "الاقتصادية" أشار في العدد 7390، بمقال له بعنوان "طرفة «نزاهة»"، أنه لم يمر عليه في العام المنصرم 2013 طرفة كخبر نشرته إحدى الصحف المحلية عن توجيهات عليا لهيئة مكافحة الفساد "نزاهة" بالتشهير بالفاسدين دون الكشف عن أسمائهم.
إن نجاح "نزاهة" لربما يتطلب منها إعادة النظر في أهدافها المتشعبة التي أفقدتها التركيز بعض الشيء على الأمور الحياتية والمعيشية التي يعانيها كثيراً الاقتصاد والوطن والمواطن من الفساد، وأيضاً لربما الأمر يتطلب من "نزاهة" إعادة النظر في صياغة رؤيتها التي تهدف إلى أن تكون من بين الهيئات المتميزة عالمياً في مجال حماية النزاهة ومكافحة الفساد، باعتبار أن ذلك لا يتوافق مع تبوؤ المملكة مرتبة متأخرة جداً في مجال مكافحة الفساد على المستوى العالمي، وذلك وفقاً لآخر تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية، الذي صنف المملكة في المركز الـ 63 عالمياً في قدرتها على مكافحة الفساد والمركز الخامس على المستوى العربي.
أخيراً وليس آخراً إن نجاح أعمال الهيئة وتعزيز ثقة المواطن بدورها، يتطلب التعرف على مواطن وبؤر الفساد في بلادنا واجتثاثها من جذورها، ولا يخفى على أحد أن البيروقراطية الحكومية أحد أسباب هذا الفساد وعدم أتممة جميع الخدمات العامة التي تقدم للمواطن، أسهم بشكل كبير في انتشار الفساد في بلادنا.
ولعلي أناشد «نزاهة» التركيز على تفعيل مشروع الحكومة الإلكترونية الذي يشار إليه بـ (يسِّر)، باعتبار أن ذلك سيسهم بفاعلية في مكافحة الفساد في بلادنا، ولا سيما حين النظر إلى أهداف المشروع النبيلة والسامية، التي من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، رفع إنتاجية وكفاءة القطاع العام، وتقديم خدمات أفضل للأفراد وقطاع الأعمال بشكل أيسر.