من يربح الشرهة؟

من يربح الشرهة؟

[email protected]

.. وهي مأخوذة من "التشرِّه" أي العتب على أحدهم، فيقول أحدنا لآخر: "أنا شرهان عليك" عندما يريد إبلاغه بعتبه بطريقة لطيفة، فيما تستخدم "الشرهة" بمعنى آخر يزيل العقل عن المُخاطب، فيغضب أحدنا على آخر ويقول له: "الشرهة مو عليك"، بمعنى أن هذا الآخر لا يُنظر إليه كصاحب عقل، ولذلك فالقلم مرفوع عنه، ومن رُفع القلم عنه رُفع عنه العتب والغضب وأشياء أخرى!
"شرهتنا" اليوم على "الشرهة" نفسها، فـ "الشرهة" التي سـ"نشره" عليها، ليست الأولى التي تُعاتِب ولا الثانية التي تُزيل العقل، بل هي ثالثة لها معنى مغاير تماما عند معشر الشعراء خصوصا، منذ عهود الجاهلية وقبل ذلك بكثير، إذ تُعتبر المقصد الأول لغالبية المداحين من الشعراء. "الشرهة" التي نقصدها هنا هي العطاء الذي يجزله الممدوح للأخ الشاعر عندما يقول قصيدة عصماء في صاحب المال أو السلطة أو الجاه.
صحيح أن عنترة بن شداد عانى الأمرين للوصول إلى النعمان بن المنذر، ليمدح ملك الحيرة "العربي" ويقبض مهر ست الحسن عبلة، ولكن ذلك لا يعني أن التكسب بالشعر سليم أدبيا وأخلاقيا. وصحيح أيضا أن أبا الطيب المتنبي من أعظم الشعراء وأكثرهم تكسبا بشعره وحصولا على "الشرهات" من سيف الدولة الحمداني "العربي" كذلك، إلا أن ذلك لا يعني أيضا أن ما فعله الأخ المتنبي سليم أدبيا وأخلاقيا.
"التكسب بالشعر" وهي المعضلة التي ورَّثها هؤلاء لشعراء ما بعد البترول، تراكمت وتطورت بيئيا مع مرور الوقت، وأضحت ثقلا لا يمكن إلا أن يؤثر بوزنه المرهق في كل ما له علاقة بتلقائية الشعر وروحه الجميلة، فكرست القوالب وتلاشت الروح رويدا رويدا حتى أن الجميع متيقن الآن أن قول الشاعر لا يعني بالضرورة "إيمانه"! فنُعتوا بالشحاذين والمتخلفين والمتزلفين!
المدح غرض جميل من أغراض الشعر، ولكني مؤمن إيمانا تاما أن أفضله وأعظمه ما يُقال بلا هدف، وهل أروع من إنصاف من أنصفه الله بقدرته على كسب المدح بخصاله؟ لكن أن يكون المدح وظيفة الشاعر يستهدفها ويكتب الشعر من أجل المال فقط، فهذا لا يستحق الموهبة التي وهبها إياه رب العالمين، وهو أحد معاول الهدم التي يستخدمها كارهو الشعر المحكي ومنتقدي انتهاجه علما أدبيا راقيا كباقي الآداب.
ذكر لي أحد الأصدقاء أنه من خلال متابعته برنامج شاعر المليون، اكتشف أن 90 في المائة من القصائد التي قيلت في البرنامج لم تخل من غرضي المدح والفخر، حتى أن لجنة التحكيم شاركت في المدح أيضا عندما تحين الفرصة لأحدهم من خلال وقت التقييم، قلت لصاحبي: هذا أمر لم أشاهده ولكني أرى بعيني أن أكثر من 90 في المائة من شعراء الخليج مشاركون في برنامج واقعي أكبر وأضخم سأسميه مجازا "من يربح الشرهة"!

الأكثر قراءة