التضاد بين العقود وأثره في عقود التمويل
إذا كان العقدان المكونان للعقد المركب متضادين فلا يجوز اجتماعهما في عقد واحد.
هذا الضابط نص عليه المالكية. جاء في الفروق "العقود أسباب لاشتمالها على تحصيل حكمتها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين، فكل عقدين بينهما تضاد لا يجمعهما عقد واحد".
وبناء على ذلك فقد منع جمهور المالكية الجمع بين البيع وبين الجعالة، أو الصرف، أو المساقاة، أو الشركة أو القراض، أو النكاح، وذلك لتضاد أحكامها معه وتنافيها.
كما أن بعض الفقهاء في قول عند الشافعية والحنابلة منعوا الجمع بين عقدين مختلفي الحكم بعوض واحد، مثل البيع والصرف، أو البيع والإجارة، وعللوا ذلك – أيضاً – أن أحكام العقدين متضادة ومختلفة.
وجمهور المالكية الذين منعوا الجمع بين البيع وبين الجعالة... إلخ أجازوا الجمع بين الإجارة والبيع، والهبة والبيع.
وفي المقابل فإن بعض المالكية، وجمهور الفقهاء غير المالكية أجازوا الجمع بين هذه العقود التي ذكر جمهور المالكية أنها عقود متضادة. جاء في القوانين الفقهية: (وأجازه أشهب وفاقاً لهم. وعللوا ذلك بأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع صحة العقد).
والراجح هو جواز اجتماع عقدين مختلفي الحكم في عقد واحد على محلين بثمن واحد. وكذا اجتماع عقدين مختلفي الحكم في عقد واحد على محلين بثمنين. كما أنه يجوز اجتماع عقدين مختلفي الحكم في عقد واحد على محل واحد بعوض واحد إذا كان ذلك في وقتين.
والمحظور إنما هو الجمع بين عقدين مختلفين في الشروط والأحكام إذا ترتب على ذلك تضاد في الموجات والآثار، وهذا يكون في حالة توارد العقدين على محل واحد في وقت واحد، وأحكامهما مختلفة متضادة، كما في الجمع بين هبة عين وبيعها.
وبناء على ما تقدم يتبين صحة هذا الضابط وهو أن "كل عقدين بينهما تضاد لا يجمعهما عقد واحد" أو أن "المحظور هو أن يكون العقدان متضادين".
وبالتأمل في الفروع التي ذكرها جمهور المالكية وغيرهم تطبيقاً لهذا الضابط، يتبين أنه لا يسلم دخول كثير منها في هذا الضابط، ولا يصدق عليها أنها عقود متضادة من كل وجه، بحيث لا يمكن اجتماع العقدين، وإنما بينها الاختلاف في بعض الأحكام، وبالتحقيق في تلك المسائل تبين جواز اجتماعها؛ لوجود التضاد، بحيث لا يمكن اجتماع العقدين، ويكون ذلك في حالة توارد العقدين في وقت واحد على محل واحد، وأحكامهما مختلفة متضادة، وأمثل ببعض الأمثلة حتى يتضح الكلام السابق.
لقد وسع المالكية مفهوم "النهي عن الجمع بين سلف وبيع" بناء على أن الأصل في القرض التبرع، وفي البيع المعاوضة، فيكون بين العقدين تضاد، فلا يجتمع تبرع ومعاوضة في عقد واحد، وفي وقت واحد، وبذلك عمموا هذا الضابط ليشمل كل عقدين بينهما تضاد، فمنعوا الجمع بين البيع والجعالة ـ مثلاً لأن الأول عقد لازم، والثاني عقد غير لازم، كما أن في الجعالة جهالة في العمل، والبيع يلزم عدم الجهالة في عمله.
وبالتأمل في العقدين لا يظهر وجود تضاد من كل وجه بحيث لا يمكن اجتماعهما في عقد واحد فيمكن اجتماع البيع بثمن معلوم مع الجعالة على عمل مجهول بثمن معلوم، فلا تضاد بين العقدين إنما بينهما الاختلاف في بعض الأحكام وكذلك سائر العقود التي منعوها.
وفي المقابل أجاز المالكية اجتماع البيع والإجارة في عقد واحد لعدم التنافي والتضاد في الأحكام ولو تأملنا في أحكامهما لتبين أن بينهما من الاختلاف مثل ما هو موجود في العقود التي منعوا اجتماعها، ولذلك فإن بعض الفقهاء منع اجتماع البيع والإجارة لوجود الاختلاف والتضاد حسب تعبيرهم، ووجه ذلك - كما سبق من عدة وجوه:
1- اشتراط التأقيت في الإجارة، وهو مبطل للبيع.
2- الإجارة تنفسخ بالتلف بعد القبض دون البيع.
3- أن المبيع يضمن بمجرد البيع، والإجارة بخلافه.
كما أنهم أجازوا اجتماع البيع والهبة، وعللوا ذلك بأنها تماثل البيع في الأحكام والشروط ولا تضاده فيه - كما تقدم - وبالتأمل في أحكام البيع والهبة يتبين أن بينهما اختلافاً في الأحكام مثل الاختلاف بين البيع والنكاح الممنوع عندهم، وكذلك الجمع بين (بيع وسلف) حسب مفهومه الواسع عندهم.
وذلك أن الهبة من عقود التبرعات بينما البيع من عقود المعاوضات، وخلاصة ما سبق أن هذا الضابط مسلم من حيث الأصل ولكن يبقى التأكد عند تحقيق المناط من دخول الفروع المراد بيان حكمها في القاعدة الكلية المقررة.
ومما تقدم يتبين أن المحظور هو الجمع بين عقدين مختلفين في الأحكام إذا ترتب على ذلك تضاد في الموجبات والآثار، وذلك في حالة توارد عقدين على محل واحد في وقت واحد كما في الجمع بين هبة عين وبيعها، أو الجمع بين المضاربة وإقراض رأس المال للمضارب، ونحو ذلك.
عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة في الرياض
[email protected]