«المدينة» في حلة جديدة .. بناء الإنسان وتنافسية المكان
كلنا يتذكر سنوات الصندوق العقاري للتنمية حينما كان القرض 300 ألف ريال للمدن الرئيسة، و200 ألف ريال للمناطق الطرفية، وما تمر به الإجراءات من توسلات وتوسطات، يمضي عقد من الزمن ونصف العقد دون أن تلوح في الأفق بادرة أمل ترسم فرحة بائسة على وجه المقترض حين يظهر اسمه ضمن القائمة التي تمت الموافقة على إقراضها، وقد يظهر اسم أحدهم وهو قد أصبح تحت الأرض ممن يُدعى لهم بالرحمة، حيث كان الحصول على القرض السكني في تلك الفترة ضربا من أحلام العمر الخيالية وكوابيس المنام الجاثمة.
اليوم بدأت الأحوال تتغير وإن كانت وزارة الإسكان تسير ببطء شديد قد يكون أشد بطئا من حركة السلحفاة!
حينما صدر توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتحويل الأراضي السكنية الحكومية إلى وزارة الإسكان لتعمل الوزارة على تصميم وتنفيذ مساكن للمواطنين، خاصة إذا ما علمنا أن الكثير من السعوديين لا يملكون منازل خاصة، وليس باستطاعتهم في ظل ظروفهم المادية والغلاء الفاحش في سعر الأرض والبناء، أن يتملكوا ولو شقة صغيرة، بدأت وزارة الإسكان تتسلم الأراضي تباعا في عدد من المناطق والمدن، وإن كان هذا الإجراء يصاحبه إشكالية قائمة فيما بين وزارتي الشؤون البلدية والقروية من جهة والإسكان من جهة أخرى، فالأولى بحسب ما نقرأ تتمسك بالأمر وكأنه سيظل من اختصاصاتها إلى الأبد!
بالأمس الأول تسلمت وزارة الإسكان أربعة ملايين متر مربع من أمانة منطقة المدينة المنورة، على أن تستكمل الأمانة لاحقا تسليم الوزارة 16 مليون متر مربع. نحن نتحدث الآن عن 20 مليون متر، وبعد استقطاع ما يخص الخدمات منها، فإن من شأن المتبقي توفير ما بين 32 و40 ألف وحدة سكنية في حال كانت المساحة لكل وحدة 500 متر أو 400 متر، وقبل هذه تقوم وزارة الإسكان حاليا بالعمل على تنفيذ وتصميم تسعة مواقع بمساحة إجمالية تبلغ 9.499.842 مترا مربعا سيضم بعضها 6326 وحدة سكنية. نستخلص من هذا أننا أمام مشاريع سكنية ضخمة في المدينة المنورة ومحافظاتها، تحقق حلم المواطن الذي يبقى حصوله على منزل "هم" يعيشه ليل نهار ما كتب الله له أن يعيش.
عملت أمانة منطقة المدينة المنورة بتوجيه أمير المنطقة على تسريع إجراءات هذه الأراضي لتسليمها إلى وزارة الإسكان تنفيذا لتوجيه خادم الحرمين الشريفين وتحقيقا لرؤية تنموية تؤكد على التعجيل ببدء الحلول الفعلية لأزمة الإسكان التي تكبر وتكبر لتشكل إزعاجا بالغا للقيادة والمواطنين، بيد أن الوضع الجاري حاليا يسهم في تخفيف ما في النفوس من قلق وينبئ بمؤشرات من المؤمل أن تقلب الصورة رأسا على عقب.. صورة بألوان زاهية في القريب المنظور.
وما دمنا في وارد الحديث عن المدينة المنورة، فإن من اللافت ما نقرأه ونشاهده عن ورش العمل المتواصلة فيها، وليست فعاليات ومبادرات اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية عنا ببعيد، وما بين أيام وأخرى هناك مؤتمر في المدينة المنورة ومناسبة في ينبع وفعاليات في العلا وزيارات دورية لمحافظات المنطقة، كلها تصب في مسارات واحدة هدفها إحداث نقلة نوعية في التنمية العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياحية.
منذ أن يدخل المدينة زائرها يشعر بروحانية واطمئنان، وتتعاظم هذه الروحانية فتصل إلى أقصاها حينما يكون الزائر بين جنبات الحرم النبوي الشريف.
الواضح أن الأمير فيصل بن سلمان أمير منطقة المدينة المنورة وفريق عمله يريد أن يضيف أبعادا أخرى لهذه المدينة "الطيبة" تتمثل في "أنسنة" المدينة، تركز على الطابع الإنساني في الدوائر الحكومية والتعامل مع المراجعين بأسلوب رفيع، هو يهدف إلى تعزيز البعد الإنساني في المدينة ومحافظاتها ومدنها بتوفير مرافق وفعاليات تجعل الحياة فيها أكثر جاذبية واهتماما بالإنسان، وعندما يتحقق ذلك فإن من يأتي للمدينة المنورة لن يكتفي بزيارة الحرم النبوي فقط، بل سيمدد زيارته ويضع في جدوله ما يتيح له الاستمتاع بمنطقة اختلفت عن ذي قبل، بمرافقها ومعارضها ومنتدياتها وفعالياتها بحثا عن المعرفة والاستفادة وتنمية المدارك والترفيه، المبنية على أسس ومعايير الأنسنة "الأبعاد الإنسانية" والتنموية.
هذا الاهتمام الراهن في إكساب منطقة المدينة المنورة مزيدا من التألق الحضاري ستلعب فيه الجوانب التاريخية دورا إضافيا يُعطي لها نكهة خاصة، فمنطقة المدينة ثرية بمعالمها الأثرية الضاربة في التاريخ، وعلى سبيل المثال فمدائن صالح واحدة من شوامخ الآثار في العالم، جاء ذكرها في القرآن الكريم، "وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين"، كان هذا في عهد "الأنباط" قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، بينما نحن الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين، ومع التأخير الطويل في المشاريع وتعثرها كعادة الكثير من الوزارات والمؤسسات الحكومية والمقاولين، فهم بارعون في الدراسات مع وقف التنفيذ والتسويف ووضع العراقيل، إلا أنه بالإمكان تأهيل مدائن صالح لاستعادة وإظهار ما تميزت به من أنظمة في التعمير والهندسة والري بعد تطويرها بأسلوب يجمع ما بين تاريخية المكان وبراعة التصاميم العالمية الحديثة، ليتقاطر عليها المواطنون والمقيمون والزوار الأجانب، وتصبح محطا لأنظار العالم وإعجابه ودهشته.
الشواهد والدلائل تقول إن إمارة منطقة المدينة المنورة ارتدت حلة جديدة مطرزة بالعمل الجاد والبناء تتسع للمقترحات والمشاركات والرأي الآخر، وخطط إمارة المنطقة وأهدافها مكتنزة بطموحات وآمال غايتها بناء الإنسان وتطوير المكان وتنافسيته.