عصر فوضى النقود: البيتكوين وأخواتها
البيتكوين عملة رقمية "Crypto-currency" تم إنشاؤها بواسطة شخصية وهمية تُدعى ناكاموتو ساتوشي في عام 2009م، والتي بمقتضاها يتم تعدين (إصدار) وحدات نقدية إلكترونية (رقمية) غير قابلة للتكرار، من خلال مبرمجات متخصصة يطلق عليها عمليات التعدين، ويتم تشغيلها على خوادم خاصة، صُممت لإصدار كمية محددة بصورة سنوية، ويتم تخفيض هذه الكمية إلى النصف كل أربع سنوات.
ويُفترض أن تتوقف عمليات إصدار هذه العملة بحلول عام 2040م، وذلك عندها تصل الكمية المصدرة منها إلى 21 مليون وحدة، وهو الحد الأقصى للكمية التي يمكن تعدينها منها، حيث تعمّد مُصدرو العملة خلق نوع من الندرة للكميات المتداولة منها؛ بهدف الحفاظ على قيمتها من التدهور، نتيجة الإفراط في عمليات الإصدار مثل العملات العادية.
ولضمان بلوغ هذه العملة أية قيمة، فقد تم تقسيم الوحدة الواحدة منها إلى 100 مليون جزء، يُطلق عليه ساتوشي. حتى هذه اللحظة تم تعدين نحو 13 مليون وحدة بيتكوين، بلغت قيمتها السوقية نحو 16 مليار دولار في كانون الأول (ديسمبر) 2013م، في الوقت الذي ظلت فيه العملة الرقمية بلا قيمة تقريبا حتى 2013م، عندما بدأت عمليات المضاربة واسعة النطاق على العملة، وارتفع سعرها إلى 1328 دولارا في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وهو أعلى سعر بلغته حتى الآن.
سعر البيتكوين حاليا يتجاوز 600 دولار أمريكي بقليل، وتتقلب هذه القيمة بشكل واضح من يوم إلى آخر، وإن كانت العملة شهدت تراجعا واضحا في الأيام الأخيرة، بعد أن توقف موقع MtGox، أكبر مواقع لتداول البيتكوين، عن السماح بسحب العملة من المحافظ التي يتم الاحتفاظ بها لديه.
وجاء قرار إيقاف السماح بعد فقدان نحو 750 ألف وحدة بيتكوين على الموقع، أو ما يعادل نصف مليار دولار تقريبا، ذابت نهائيا، وأصبحت غير قابلة للاسترداد بسبب طبيعة هذه العملة؛ ما أثار موجة غضب كبيرة بين مالكي البيتكوين، وكشف بشكل واضح درجة هشاشة هذه العملة.
البيتكوين هي إحدى أكثر العملات إثارة للجدل حاليا، خصوصا مع انفتاح شهية المبادرين الآخرين حول العالم على إصدار عملات شبيهة، أهمها اللايتكوين، والبير كوين، والدوجكوين، والنيمكوين، والماستر كوين. وبعضها تم تحديد حد أقصى على الكميات التي يمكن تعدينها منه، وبعضها ليس له حد أقصى.
ويُلاحظ أن الإقبال على هذه العملات البديلة كبير من جانب من يكتنزها، طمعاً في أن تنجح جهود تسويقها على المستوى الدولي، وأن تجد قبولا من الأفراد في العالم، وعندها سترتفع أسعارها السوقية، وتتحول الأوراق شبه البيضاء إلى ثروة، مثلما حدث مع البيتكوين.
لم يحدث في التاريخ أن تمت عمليات إصدار عملات على هذا النحو من غير ذي صفة أو غير ذي حق؛ فاليوم كل ما تحتاج إليه لإصدار عملة هو جهاز حاسب، وموقع إلكتروني للعملة، وبرنامج لتعدين العملة؛ وهكذا يكون قد تم إصدار عملة رقمية جديدة، لتضاف إلى القائمة الطويلة حاليا من هذه العملات.
وإذا اختار العالم بالفعل التعامل مع هذه العملات؛ فإن ذلك يعني أن العالم بالفعل سيدخل عصر فوضى النقود الرقمية، التي تشمل عددا كبيرا من العملات التي تتنافس فيما بينها على ضمان قيمة الثروة لمن يحتفظ بها.
غير أن هذه المنافسة من جانب المبادرين لإصدار هذه العملات يمكن أن تنتهي بانهيار هذه العملات، لكن بعد أن يدفع العالم ثمنا غاليا لهذه الفوضى، مثلما يدفع العالم اليوم ثمن الفوضى في عمليات التمويل غير المسؤولة في سوق المساكن الأمريكية.
إجمالاً، عملة البيتكوين ليس لها قيمة في حد ذاتها، كما أنه ليس هناك أي جهة من أي نوع تتحكم في أسعارها، سوى العرض والطلب عليها في سوق المضاربة على العملة، وهو ما يفقدها أهم شروط العملة التقليدية، وهو الاستقرار النسبي في قيمتها، على الأقل في الأجل القصير.
أكثر من ذلك، فإنه لا توجد سياسة نقدية مُحدّدة تهدف إلى التحكم في الكميات المتداولة منها، للسيطرة على التقلبات في أسعارها، أو للحيلولة دون ارتفاعها أو انخفاضها الشديد؛ ما يزيد من درجة هشاشة هذه العملة، وتعرضها للتقلبات السريعة في أسعارها، الأمر الذي يرفع من مستوى المخاطر المصاحبة لحملها.
ومقارنة بالنقود التقليدية؛ فإن البيتكوين قابلة للتقسيم مثل غيرها من العملات والأصول، بصفة خاصة الذهب، كما أنها محدودة من حيث الكميات المتداولة. وفي هذا يُشبِّه المتعاملون بالبيتكوين بالذهب، وهو تشبيه لا يستقيم، لأن الذهب له قيمة في ذاتهintrinsic value، بينما لا تحمل البيتكوين أي قيمة في حد ذاتها، مثلها مثل النقود القانونية Fiat money التي نتداولها حاليا.
ومع ذلك، فإن مقارنتها بالنقود التقليدية لا تستقيم؛ فالنقود التقليدية لها قيمة سوقية تتحدد بالعرض والطلب عليها، ويتحكم البنك المركزي في الكميات المُصدر لها في الكميات المصدرة منها، بحيث يتمكن من تحديد اتجاه قيمتها في أغلب الأحوال.
ومن ناحية أخرى، فإن النقود التقليدية هي وحدة إبراء للقيمة، وقوة إبراؤها مضمونة بواسطة القانون، بينما لا توجد أي قوة إبراء قانونية للبيتكوين غير قبول الأطراف المتعاملة فيها. وأكثر من هذا، فإن الاحتفاظ بالنقود التقليدية يترتب عليه الحصول على فائدة، بينما لا يمكن ضمان ذلك في أغلب الأحوال عند الاحتفاظ بالبيتكوين.
البعض أيضا، يرى أن هناك عملات شبيهة بالبيتكوين، قد تكون مستخدمة في التداول، مثل الكوبونات الورقية التي قد تصدرها المحال التجارية الكبرى وغيرها. لكن، مرة أخرى؛ هناك فارق جوهري بينها وبين البيتكوين، وهو أن هذه الكوبونات قابلة للاسترداد، وهناك مؤسسات مسؤولة عنها، وتضمن عملية الحصول على قيمتها.
وهذا الأمر عكس حال البيتكوين؛ فليس هناك أي ضمان لاسترداد قيمتها، وحالياً يُعتقد أن قدراً لا بأس به من البيتكوين فُقِد أثناء عمليات التداول. المشكلة هي أن كل وحدة بيتكوين يتم فقدانها خلال نظام التداول، لا يمكن إصدار بديل لها، لأن هذه الوحدات حسب التعريف المقدم لها غير قابلة للازدواجية على نظام التعدين الخاص بها.
أما بالنسبة لنظام التداول الإلكتروني للبيتكوين؛ فإن المعاملات في العملة تتم في إطار شخصي بين متبادلين للعملة بصورة إلكترونية، عبر مبرمجات خاصة، تسمح لحامل البيتكوين بتحويل ما يحتفظ به من العملة في محفظته المالية الإلكترونية إلى المحفظة أو المحافظ المالية لمن يتعامل معهم.
ورغم أن التدقيق في محافظ العملة يخلع على ما يتم الاحتفاظ به منها صفة "الاكتناز"؛ يرى المتعاملون أن ما يتم الاحتفاظ به يمثل ادخارا وليس اكتنازا، هذا ويتم التداول غالبا تحت أسماء مستعارة، حيث يسهل إخفاء الشخصيات الحقيقية للمتعاملين، الأمر الذي يفتح الباب أمام عمليات استخدام البيتكوين في تمويل الأنشطة المشبوهة حول العالم.
وتعاني البيتكوين حاليا من عدة مشكلات، تهدد بالفعل قدرتها على أن تتحول إلى عملة يتعامل بها الناس. وبشكل عام اليوم نجد البيتكوين اهتمام بسبب الارتفاع الكبير الذي حدث في سعرها، مقارنة بالعملات الأخرى، مثل اللايتكوين والدوجكوين وغيرها.
وقد انتقد العديد من الاقتصاديين تلك العملات. على سبيل المثال انتقد بول كروجمان البيتكوين على أساس أنها تشجع الاكتناز، وتتسبب في الانكماش السعري إذا استمرت أسعارها في الارتفاع.
أكثر من ذلك؛ فإن محافظ البيتكوين التي يتم الاحتفاظ بها على نظم التبادل عرضة للقرصنة بصورة كبيرة. على سبيل المثال: تم قرصنة كل كميات البيتكوين التي كان يحتفظ بها موقع وادي الحرير، وهو أحد المواقع التي تتهم بأنها متخصصة في تمويل العمليات غير القانونية عبر الإنترنت، مثل تمويل تجارة المخدرات، وعمليات غسيل الأموال، وتمويل الجريمة المنظمة وغير ذلك.
وتتزايد التقارير التي تثبت بأنه بسبب صعوبة الكشف عن المتعاملين في هذه العملة، حيث غالبا ما يتم التعامل تحت أسماء مستعارة؛ فإن جانبا لا بأس به من هذه العملة يستخدم حاليا في عمليات سداد قيمة الصفقات المشبوهة. وتلعب البيتكوين دور وسيط التبادل المفضل للمجرمين وعصابات الجريمة المنظمة، لسهولة إخفاء هذه العمليات، بما أن عمليات التمويل تتم خارج نطاق المصارف ومؤسسات التمويل التقليدية.
أخيرا تصاعد القلق الدولي حول انتشار استخدام البيتكوين في دفع قيمة العديد من السلع، وتزايد حجم الجهات التي تقبل العملة، ومنها جامعة نيقوسيا في قبرص، الأمر الذي دعا بعض الدول إلى حظر استخدامها كأداة قانونية لإبراء الذمة. ويبدو أن هناك حالة تطبخ على نار هادئة لوصم البيتكوين بأنها "عملة غير قانونية"، تمهيدا لوقف استخدامها كأداة إبراء للذمة على المستوى الدولي.