الحكمة السعودية .. في الإعداد للمرحلة القادمة
العنوان الأبرز في قرار تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز وليا لولي العهد هو الاستقرار وتسلسل واضح وسلس للسلطة وتماسك وقوة للجبهة الداخلية، ولذا يأتي القرار كمطلب شعبي واستحقاق وطني يحقق الاطمئنان ويجعل الجميع على بينة من الأمر. والقرار يعكس نظرة ثاقبة واقعية وعقلانية ووطنية للقيادة السياسية وحرصا على مستقبل البلاد واستدامة الاستقرار. ففي ظل الظروف والتحولات التي تعيشها المنطقة والتغيرات التي تعصف بكثير من دول العالم كان لا بد من حسم الأمور واتخاذ موقف واضح وصريح يرسم ملامح مستقبل إدارة الدولة بدقة ووضوح ووضع الأمور في نصابها تعزيزا للحمة المجتمعية والوحدة الوطنية وضمان حالة الاستقرار والأمن والأمان. إن اختيار هذا الترتيب من التسلسل السلس الواضح للسلطة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة من عمر الدولة يجنب المجتمع الدخول في متاهة الاختلاف واختلاق الإشاعات والتشكيك والتباس الأمر على العموم وغموض المستقبل. إن من صالح الأعداء أن تكون الأوضاع ضبابية معقدة وشائكة فهي مرتع خصب للمرجفين والحاقدين والمنفلتين فكريا والجهال الغوغائيين الذين يسعون إلى بث الفرقة وتفكيك الاجتماع وخلق صراعات تنطلق من فكر ضيق ودوافع شخصية. إن كينونة المجتمع واستقراره وديمومته هي في التحامه واجتماعه حول المشترك الوطني. وأهم المشتركات الوطنية قيادة سياسية صالحة واعية حريصة على تحقيق المصالح العليا للبلاد. لقد أدرك السعوديون تميز نظامهم السياسي والاجتماعي بالاستقرار والثبات وأن عليهم الحفاظ عليه، وإذا كان هناك من تطوير فيكون داخل إطار الثوابت والمشترك الوطني. إن الثروة الحقيقية لأي مجتمع تلاحمه على أساس من العقد الاجتماعي المتين الذي لا تنفك عراه مهما كانت التحديات ومهما تغيرت الظروف ويحقق الأمن والسلام والاستقرار والازدهار والعدل والمساواة. إن الدرس المستفاد من التجربة السعودية هو الاستقرار في الحكم وانتهاج سياسة رشيدة تلتزم بالثوابت الوطنية وتوحيد الكلمة وتجسيد قيم المجتمع والتواصل مع الناس ومعايشة همومهم وتفهم مشكلاتهم في إطار من العلاقة الشرعية الأخوية قبل أن تكون مؤسسية قانونية. لا بد في هذه المرحلة الحرجة والضبابية التي اختلطت فيها المفاهيم وتبدلت فيها القيم وتكالبت علينا الأعداء أن نسير على ذات النهج الثابت الذي اختطه مؤسس البلاد الملك عبد العزيز بهويته الإسلامية وتوحيد الكلمة وألا نغتر بالأسماء الجديدة أو ننخدع بادعاءات التطوير والتحديث الكاذبة أو الاعتقاد بأن ما يصلح للآخرين يصلح لمجتمعنا المسلم المحافظ.
إن سر استدامة ونجاح النظام السعودي هو تماسك الأسرة المالكة وتحليها بالحكمة والصبر وبُعد النظر والقيام بمسؤولياتها الوطنية. هذا منطلق قوتها وصلابة أساسها وقبول الناس لها. لقد أسست العلاقة بين الأسرة الحاكمة والشعب السعودي على تقوى من الله وحبل من الأخوة متين وعلى قيم عربية وبيعة شرعية. والحقيقة التي لا مواربة فيها أن الجزيرة العربية لم تشهد في العصر الحديث بناء دولة مستقرة ومزدهرة مثل السعودية أسهمت في تحول المجتمع من الجهل والتنازع والخوف والجوع إلى مجتمع ينعم بالأمن والأمان والاستقرار والازدهار. والحديث هنا يشمل ما قبل الثروة البترولية، التي يعتقد البعض أنها سر تألق النظام السعودي. وهذا بفضل من الله ثم الاستقرار السياسي والعلاقة الأخوية الندية بين الحاكم والمحكوم المبنية على تعاليم الشرع الحنيف. إن الدعوة للتطوير لا يعني التخلي عن الثوابت الوطنية، لأن في ذلك هدم للهوية التي هي أساس كينونتنا وتقويض للقواعد التي بنيت عليها دولة الشرع والشرعية والضامن لوحدتنا وقوتنا. سيكون من الجهل أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير منجرفين وراء عناوين براقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، إذ إن الاستعمار والاستعباد إنما يكون باتباع نهج الآخرين والإذعان لهم وتشرب ثقافتهم طواعية بل انبهار والاعتقاد أنها أفضل من شريعتنا! لم تكن الشعوب العربية لتتخلى عن الإسلام منهجا للحياة، إنما النخب الملوثة فكريا وثقافيا التي ذهبت تدعو للتخلي عن الدين أو اختزاله في العبادات، بل إدخال البدع والخزعبلات على الشعائر الدينية لتسلبه صفاء التوحيد وتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو مرتكز خيرية الأمة. لم تكتف بتحجيم تطبيق الشريعة، بل رأت استبدالها بأنظمة مستوردة من الشرق والغرب وفرضها على الناس وإلزامهم بها من دون حول منهم ولا قوة. لم تكن تلك الشعوب العربية المسلمة المغلوبة على أمرها راضية ولم تقبل في يوم من الأيام بالتخلي عن الشريعة حكما ومنهجا، لذا لم يكن مستغربا أن تواجه الأنظمة العربية المستوردة من الشرق والغرب تغيرات جذرية وثورات شعبية عارمة، لأنها غريبة يرفضها ويلفظها المجتمع، فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات تنسجم مع ثقافتها الإسلامية وتقاليدها العربية.
إن اختيار الأمير مقرن بن عبد العزيز لقيادة المرحلة القادمة اختيار موفق إذ إن أسلوبه القيادي الاحتوائي وشخصيته المنفتحة على الجميع وعقليته المستنيرة وتدريبه العسكري الانضباطي وثقافته العميقة يؤهله للانتقال بالسعودية لمرحلة تنموية جديدة والتصدي للتحديات المستقبلية. لقد التقيت به في جامعة الملك سعود عدة مرات فكان حديثه عميقا صريحا عمليا والأهم أنه محب عاشق للوطن وأبناء الوطن يرغب في الإصلاح والتطوير، ولكن في إطار الثوابت الوطنية فهو يجمع بين الأصالة والمعاصرة. إن شخصية الأمير مقرن الأبوية تجعلك تحبه وتحترمه منذ الوهلة الأولى لأنه يمنحك شعورا صادقا بحديثه العفوي الذي يكسر فيه كل الحواجز النفسية والبروتوكلات الرسمية ليكون حديثه من القلب إلى القلب. إنه بسماته الشخصية الفذة وأسلوبه القيادي المميز وخلقه الرفيع وتفكيره العميق رجل المرحلة المقبلة. إن ما يميز الأمير مقرن أنه يجسد بفكره وخلقه جميع أطياف الشعب السعودي، وقد يكون ذلك بسبب تنقله في العيش بين عدة مناطق في المملكة. هذا التلون الثقافي أكسبه قدرة على التواصل مع أبناء شعبه وعندما يكون القائد قريبا للمواطن فثمة النجاح السياسي. أدعو العلي القدير أن يوفق الأمير مقرن في مهمته وأن يكون امتدادا لإرث سياسي عظيم، وأن يمن الله على المملكة العربية السعودية بنعمة الاستقرار وأن يجنبها الفتن ويحفظها بحفظه. آمين.