«بناء الأمانة»
جاء ذكر الأمانة في كلمات الكتاب المبين على وجهين، ففي مقام الخبر وصلة الإنسان بالأمانة يأتي هذا السياق في قول الله: ?إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا?. فجاء ذكر الأمانة مفردة، وفي مقام التكليف يأتي ذكرها بالجمع باعتبار المتعلق ?إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها?. وترى في صفات المؤمنين قوله: ?والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون?. وهذا نص خبري، وكل خبر يتضمن أمراً وتشريعاً.
إن صلة الإنسان بالأمانة ذكرت في القرآن على هذا الوجه من العلاقة، وختمُ الآية بقوله: ?وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً? لا يعني ذماً مطلقاً للإنسان فهو ليس بالضرورة يكون متلبساً بالظلم والجهل، وإنما مراد الآية أنه قابل للظلم والجهل، ومعلوم أنه قابل للعدل والعلم، وإنما ذكر قابليته للظلم والجهل في مقام حمل الأمانة تنبيها لأخص العوارض التي تخرج بالإنسان عن تحقيق الأمانة كخُلق ومبدأ في داخله، ولهذا فإن كل تجاوز بشري لحقوق الأمانة في سائر صورها يكون تحت هذين السببين (الظلم والجهل)، فهما مُمثلا مادة الشر في الإنسان، فعنهما تكون الخطيئة واكتساب الإثم، وعند هذه القراءة يكون الظلم والجهل ليس ضرورة دائمة للإنسان ولكنه كامن فيه، والنفس البشرية قابلة للتحرك به إلى الشر دفعاً لأثر الجهل والظلم عن نفسه التي خلقها الله قابلة لهذين المتضادين، كما في قول الله: ?ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها?.
إن الله سبحانه خلق النفس على هذا القبول، ولهذا صار العبد مسؤولاً عن فعله لأنه مختار عند الفعل، وترى في عدل الشريعة أن الفعل إذا تولد من غير إرادة لا يكون صاحبه مكلفاً، وفي جمل التشريع العام في القرآن قول الله: ?لا يكلف الله نفسا إلا وسعها?.
وهذا من عدل الشريعة وصدق منهج النبوة، ولهذا الأصل في التشريع أنه على مقدور البشر، لكن حين توجد أحوال عارضة يكون الحكم مرتفعا أو مخففاً حسب الاقتضاء الشرعي، فالعجز يرفع الحكم، والمشقة تجلب التيسير، وفي الصحيح عن عائشة قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما).
إن هذه السعة وهذا اليسر في الشريعة يجب أن يحفظ بالأمانة الإيمانية والعلمية حتى لا تعطل سعة الشريعة، ولا تُباعد عن مقاصدها إلى هوى النفس، والله الهادي.