تباطؤ في إصلاح النظام المصرفي البريطاني

تباطؤ في إصلاح النظام المصرفي البريطاني

رغم مرور ما يقارب الأعوام الستة على اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن بريطانيا لا تزال تصارع من أجل الخروج منها. ومع مواصلة المملكة المتحدة جهودها لكي يقلع الاقتصاد مجددا، فإن الخبراء الاقتصاديين على اختلاف مشاربهم لا يزالون منهمكين في الإجابة على التساؤل الرئيس: ما الذي يعوق الاقتصاد الوطني عن التحليق من جديد في سماء معدلات النمو المرتفعة؟
القطاع المصرفي لا يزال المتهم الرئيس في المسؤولية عن انفجار الأزمة أواخر عام 2008، لكن المشكلة أن العديد من الخبراء يعتقدون أن النظام المصرفي مسؤول بدرجة أو أخرى عن إعاقة الاقتصاد عن الانطلاق، وأن الجهود الحكومية المتواصلة لإصلاحه لم تفلح في تحقيق المرجو منها بالمعدلات المطلوبة، أو في التوقيت المحدد.
لم تعد المشكلة تكمن في انتقادات داخلية توجه للمصارف البريطانية بعدم قدرتها على إكمال دائرة الإصلاحات المطلوبة منها، وإنما تعدتها إلى تعليقات دولية بهذا الشأن.
الدكتور هنري بروا الاستشاري في البنك الدولي يعتبر أن الاهتمام بوضع النظام المصرفي البريطاني ينبع من أهميته للاقتصاد العالمي، ويضيف لـ "الاقتصادية"، أن المصارف البريطانية لها موقع فريد في الاقتصاد العالمي، فالعديد من العوامل التاريخية والاقتصادية تجعلها في مقدمة مصارف العالم، سواء فيما يتعلق برؤوس الأموال الأجنبية المودعة أو المستثمرة فيها، وهذا يجعلها في ترابط مباشر بالعديد من الاقتصادات الأخرى، ومن ثم فإن أي هزة أو إخفاق لديها لا يبقى منحصرا في الاقتصاد البريطاني فقط بل ينعكس ويمتد تلقائيا إلى بلدان أخرى.
وحول الوضع الراهن للنظام المصرفي البريطاني أشار الدكتور هنري إلى أن عملية الإصلاح لم تتقدم بالشكل المطلوب، والسبب في ذلك القطاع الصناعي، إذ إن كبار الرأسماليين البريطانيين يفضلون معدلات ربح عالية وسريعة في الأجل القصير، على حساب تحمل المتاعب ومواجهة التحديات في الأجل الطويل.
هذا التقييم فتح الباب على مصراعيه من قبل خبراء اقتصاد بما ذلك أكاديميون ينتمون للمدرسة الليبرالية ومدافعون عن الحرية الاقتصادية، إلى التأكيد على أن مجالس إدارات المصارف الكبرى، يستغلون المخاوف الحكومية والشعبية من المضاعفات التي يمكن أن تنجم عن انهيار تلك المصارف لمقاومة عملية إصلاح حقيقية.
أما الدكتورة ليزا هيث أستاذة اقتصادات المصارف في جامعة مانشستر وأحد الوجوه البارزة في الدفاع عن الحرية الاقتصادية فتتهم النظام المصرفي البريطاني باستغلال حجمه الضخم للحفاظ على الامتيازات التي يتمتع بها رافضا إجراء إصلاحات جوهرية تمس بنيته الراهنة.
وأضافت لـ "الاقتصادية"، أن الشعار الحالي أن تلك المصارف من الضخامة المالية بحيث لا يجب السماح لها بالفشل، فإفلاسها يعني انهيار النظام الاقتصادي برمته، وهذا الشعار يمنح مجالس إدارات المصارف الخمسة الكبرى في بريطانيا حصانة من عدم المضي قدما في الإصلاحات المطلوبة بالسرعة المطلوبة، أو تفادي الإصلاحات التي تمس جوهر النظام، بدعوى أن هناك خطر من انهيار تام في النظام المصرفي ومن ثم المنظومة الاقتصادية في آن واحد.
وأشارت هيث إلى أنه لابد من تدخل حكومي، لأن هناك لوبي مشترك من المصرفيين وكبار الصناعيين يتحالفون معا لخدمة مصالحهم، على حساب عملاء البنك، وهذا التحالف لا يزال الخطر الداهم على النظام المصرفي ومن ثم على النظام الاقتصادي، فلا يمكن لدافعي الضرائب مواصلة دعمهم الراهن للمصارف إلى ما لا نهاية، والأمر في حاجة لتشديد الرقابة وتنظيم أكثر صرامة وتوحيد قواعد الأسواق المالية.
إلا أن وجهة النظر تلك، هناك من يعارضها بدعوى أن بريطانيا لا تقف وحيدة في أسواق المال العالمية، ولا يجب تحميل النظام المصرفي البريطاني أكثر مما يحتمل، ومن هؤلاء روسل استريت المدير التنفيذي السابق في بنك لويدز الذي يعتبر أن الهجوم المتواصل على القطاع المصرفي في بريطانيا يربك إدارته، ويجعلها أكثر حذرا في طبيعة استثماراتها مما يؤدي عادة إلى خفض معدلات الربحية، وتحول المستثمرين إلى بلدان أخرى.
وأوضح استريت لـ "الاقتصادية"، أن النظام المصرفي في بريطانيا حمل بمفرده تقريبا أسباب الأزمة الاقتصادية، وكأنها لم تكن كارثة شملت جميع القطاعات وعلى نطاق عالمي، ومطالبته الدائمة بالإسراع في عملية إصلاح جوهرية، قد تبدو منطقية للوهلة الأولى لكن علينا أن نكون حذرين للغاية، فالإسراع يؤدي لعواقب أكثر سلبية، ونحن لا ننفرد بالسوق فلدينا منافسين تزداد شراستهم وقواتهم في اجتذاب المودعين ورؤوس الأموال يوما بعد آخر.
وأضاف أن علينا أن نعي تماما أن الأصول التي يحتفظ بها أثرياء العالم والموجودة تحت بند "إدارة الأصول" تصل في حجمها إلى 30 تريليون دولار أمريكي، وهي تمثل ثلث الأصول الاستثمارية في العالم التي تبلغ 90 ترليون دولار، وجزء كبير منها متواجد في المصارف البريطانية، وإحداث إصلاحات جوهرية تمس طريقة إدارة هذه الثروات ومعدلات ربحيتها، ولهذا يجب أن تتم الإصلاحات تدريجياً وإلا غادرتنا رؤوس الأموال تلك إلى مصارف أخرى لأن الثقة المصرفية تأتي ببطء لكنها ترحل سريعا، وقد لا تعود مرة أخرى. وفي ظل موجة الهجوم والدفاع التي يتعرض لها النظام المصرفي البريطاني، لا تزال الحكومة والكثير من المستثمرين الأجانب يأملون أن يفلح القطاع المصرفي في التعافي سريعا من أوضاعه الراهنة، وأن يبرهن على قدرته في الخروج من الأزمة، فالحكومة تعتبره قطاعا رائدا في الاقتصاد الوطني وقادرا على لعب دور القاطرة لجذب المنظومة الاقتصادية بأكملها، وخلق المزيد من فرص العمل عبر معدلات نمو مرتفعة. بينما ينظر المستثمرون الأجانب إليه على أنه المنظومة المصرفية الأكثر اتزانا وأمانا بين القطاعات المصرفية الدولية، وعلى الرغم من أن هذه القناعات تعرضت لتساؤلات وتشكيك من قبل البعض في السنوات الماضية، إلا أنها لم تصل بعد إلى مرحلة فقدان الثقة، وهو ما تعمل جهود الإصلاح على تفاديه والعودة إلى التميز السابق على اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008.

الأكثر قراءة