صوت الشارع المسموع.. وصل إلى الملايين ببساطة وغاب بغموض
أن يكون الصوت عاليا وقادرا على الوصول بالاعتماد على صاحبه فقط، فتلك قدرة عجيبة خلاقة وتستحق تعب البحث في الأسرار التي جعلت منه بهذه القدرة، وأن تعتمد على إمكانيات تسجيل متواضعة لا تتعدى كونها آلة تعمل ببطاريات، وعدد من الأصحاب القادرين على نقر "القدور" بطريقة موسيقية مقبولة، وتقدم عطاءً محكيا وفنيا يصل إلى الملايين من دون شركة إنتاج أو توزيع ضخمة الإمكانيات، هو أمر يبعث الإيمان في نفوس الباحثين في أن هذه القدرة تملك أكثر بكثير مما ظهر منها للناس.
محمد السليّم، ولا نحسب أن هناك من لا يعرف هذا الاسم، خاصة حينما كانت أعماله تتناقل بين الكثيرين رغم رداءة التسجيل الذي اعتمد على جهود شخصية، وأصدقاء محبين يجتمعون ليضحكوا من سخرية هذا المبدع، ويتفاعلون معه بطريقة "نحن نفهمك ونؤمن بما تصدح به".
محمد السلّيم فنان سعودي شعبي استحدث شخصيات كثيرة وقدمها في قوالب مضحكة وهادفة في الوقت نفسه، يصدح من خلال مونولوج، وقفشة مضحكة، وأغنية هادفة، ويمرر أنفاس الشارع بدقة متناهية وسلاسة عجيبة.
بدأ محمد السليم عطاءه غير المقولب فنيا في نهاية السبعينيات الميلادية، وذلك من خلال أشرطة الجلسات التي يحييها هو وأصحابه، معتمدا على إمكانياته وحده، ينتقد وضعا اجتماعيا أو يقلد فنانا معروفا ويحرف كلمات الأغنية لتتواءم مع سخريته اللاذعة، أو حتى يصنع مونولوجا خاصا بسيناريو وحوار مفجرا طاقته المذهلة في تقليد الأصوات والشخصيات بلهجاتها المختلفة.
توزع أشرطة محمد السليم وتباع بطريقة تقليدية وغير تسويقية وذلك بنسخها في محال بيع الكاسيت التي تبحث عن أشرطته من خلال أشخاص عاديين، بل ويشترون النسخة منهم بآلاف الريالات، لأنهم على يقين أن الآلاف التي خسروها في شريط واحد ستدر عليهم أضعافا مضاعفة منها، نظرا للإقبال الكبير الذي تشهده هذه المحال عندما يعلنون حصولهم على إنتاج محمد السليم الجديد!
العجيب أن أرقام توزيع أشرطته اكتسحت أشرطة فنانين آخرين تقف خلفهم شركات إنتاج وتوزيع ضخمة، ويسجلون أعمالهم في القاهرة أو الكويت آنذاك لضعف إمكانية الحصول على جودة في المنطقة العربية إلا في هاتين الدولتين، يدعم أعمالهم توزيع موسيقي في هذه الاستوديوهات، لتخرج إلى جمهورهم بأبهى حلة، إلا أن محمد السليم الذي كان يسجل أعماله في أغلب الأحيان في "البر" من خلال جلسة سمر مع أصحابه المقربين كان يجاوزهم في التوزيع والوصول إلى أسماع الناس، رغم الطريقة البدائية التي توزع فيها أشرطته.
ونحن نتحدث عنه متسائلين ماذا لو أن أعماله في الوقت التي ظهرت به كانت تحت مظلة شركة إنتاج منظمة، تبنت مشروعه كفنان حقيقي؟ ماذا لو استمرت تجربته حتى وقت الفضائيات والفيديو كليب؟ نحن بحاجة لأنموذج كمحمد السليم، من باب التنويع وإثبات أن بعض التجارب قادرة على لملمة الهموم وتقديم شكل الحياة كما هو فعلا... أين أنت يا محمد؟